حكام وشعوب
قبل البدء بتحليل ما جرى في تونس ومصر، وما سيجري في المستقبل لا بد من الوقوف أمام العبارات التالية بتمعن دقيق، وعقل متدبر، وتفكير سليم واعٍ.
العبارة الأولى: سئل إعرابي هل تحب أن تموت من أجل الأمة، فكانت أجابته، لا بل تموت الأمة وأبقى أنا.
العبارة الثانية: قال أحد الخلفاء لابنه وهو على فراش الموت: يا بني إذا داهمك العدو، فارم به أهل البلاد، فإنما الغريب لبطنه وجيبه.
العبارة الثالثة: سئل أحد الأمويين لماذا أدبرت دولتكم فأجاب: عُميت عنا الأخبار، وولينا الأمر من ليس له أهل.
العبارة الرابعة: من ينام عن الرعية يداس بأقدامها.
بدأت حديثي بهذه العبارات لعلنا نصل إلى الأسباب والدوافع التي بدأت تحرك الشعوب العربية التي نامت واستكانت لسيطرة الحكام واستبدادهم ردحاً طويلاً من الزمن، حتى أصبح هؤلاء الحكام يشعرون بأنهم ظل الله في الأرض، الملهمون في تسيير شؤون الأمة، يركنون إلى التقارير اليومية التي تصدر من مؤسسات الدولة الحساسة ومفاداها: كل شيء يجري بنظام سيدي.
نعم كل شيء يجري بنظام حسب منطقهم وتفكيرهم، لأن هؤلاء لا يعرفون الحراك الاجتماعي، ولا يقرأون التاريخ، ولا يعرفون ثقافة الأجيال فقبل خمسة عشر قرناً، قال على بن أبي طالب: "علموا أولادكم فإنهم خلقوا لجيل غير جيلكم"، نعم هناك فروق في الأجيال، ويمكن أن أضرب مثلاً بسيطاً على ذلك فالطبخة التي يحبها الوالد قد لا يلتفت إليها الابن، والنمط الحياتي الذي عاش عليه الأب لا يقبله الابن في غالب الأحيان.
إن تتبع التغيرات الاجتماعية وتبدل الأحوال وتقلبها من أولى واجبات ولي الأمر، لكن للأسف أن أحداً لم يلتفت إلى هذه التغيرات، بل إنهم لا يدركون أن التغيرات الاجتماعية عملية تراكمية تظهر بوضوح مع مرور الزمن ولا يلاحظها أولئك المتنعمون المنغمسون بمظاهر الأبهة والعظمة، ويستكين معهم ممن هم أولى الناس بمتابعة هذه التغيرات، فتفسد الأمور، ويتهاوى النظام عند أول صدمة.
لقد نبه العديد من المؤرخين والمفكرين الحكام إلى عدم الغفلة عن الرعية، وتتبع شؤونها، وفي طليعتهم الجاحظ الذي يقول: "ومتى غفل ولي الأمر عن فحص أسرار رعيته، والبحث عن أخبارها فليس له من اسم الراعي إلا رسمه، ومن الملك إلا ذكره".. عليه البحث عن كل خفي ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه عن نفسه، وألا يكون أهم ولا أكبر في سياسته ونظام ملكه في الفحص عما قدمناه. وإلى مثل ذلك أشار ابن الأعرج (ت1519م) في كتابه تحرير السلوك حيث قال: على الملك التطلع إلى مجددات الأحوال وحوادث الأمور واستعمال الفكرة فيما يتجدد، مخافة طرآن مكروه ومحذور... فإن حوادث الأقدار، و تقلبات الأدوار قد تجعل الموافق مخالفاً، والموالي مجانباً، والأمين خائناًُ، والناصح غاشاً، الساكن متحركاً، والمقرب مبايناً. فإذا تطلع (السلطان) إلى معرفة مجددات الأسباب ظهر له الخطأ من الصواب، وعلم المحق من المبطل المرتاب، فبادر إلى إصلاح الخلل وإزالة الاضطراب. فإذا لحظها السلطان بعين يقظة، وأدخل إحكام إحكامها في باب معرفته، أقام بما وجب عليه من حراسة الملة وسياسة الرعية.
وقبل ابن الأعرج حذر الماوردي ولي الأمر من ترك الأمور تجري وفق ما تأتي به الأقدار وقال: ينبغي للسلطان ألا يغفل عن الحذر والاحتراس، فيجعل التوكل على الأعذار، وما تجري به الأقدار طريقاً إلى إضاعة الحزم، فيستسلم لنوائب الدهر، فإن الله تعالى أمرنا بالتوكل بعد الأعذار وندب إلينا الأحذار. وقال صلى الله عليه وسلم: إعقلها وتوكل. وسئل ما الحزم قال: الحذر، وأضاف الماوردي قائلاً: على ولي الأمر أن تكون عنايته بأخبار من بعد عن حضرته كعنايته بأخبار من قرب منها، بل ربما كان أهم لأن بعد الدار يبسط أيدي الظلمة، فإذا وافق بعد دارهم قلة الاستخبار عن أحوالهم أمنوا في إتباع أهوائهم، وسكنوا إلى الغفلة عن مذموم أفعالهم، فكانت أيديهم مبسوطة في الرعايا، وأهواؤهم مخلة في القضايا.
إن الحديث في هذا الشأن طويل ومتشعب، وعلينا ومن خلال ما أوردت أن نقف على أسباب هذه الحركات العنيفة التي بدأت تطفو على السطح في بعض الدول بعد أن غطَّت شعوبها في سبات عميق.
السبب الأولى: انعدام الثقافة العصرية لغالبية المسؤولين في أجهزة الدول العربية، ومن المعلوم أن من أهم المؤهلات لمتسلم السلطة في كل العصور أن يكون صاحبها مثقفاً بثقافة عصره، وهذه الثقافة من أخص اللزوميات له. وبدونها لن يتمكن الولي والمسؤول من تحقيق الهدف الذي جاء من أجله.
ثانياً: إهمال الحراك والتغير الاجتماعي للشعوب في التقارير التي ترفع إلى ولي الأمر، والتركيز على أمور لم يعد لها أثر فاعل على المجتمع. إن النكته التي يصدرها المجتمع تحتاج إلى خبراء ليحللونها ويستطلعون خفاياها، لكي يتمكنوا من بناء فكرة سليمة عن أحوال المجتمع. واعتقد أن ما يسمى "الأمور تجري بنظام" ما هي إلا عبارة عن دواء مسكن يخفي وراءه السرطان الذي ينهش أجزاء المجتمع. فهناك المحرمون والمظلومون والمغبونون والفقراء والعلماء والأغنياء وكل فئات المجتمع بحاجة إلى استطلاع أحوالهم وتتبع أخبارهم حتى يكون الجميع مثل الصورة في مرآة ولي الأمر.
ثالثاً: الاعتماد على فئة معينة واستمرارهم في المسؤولية حتى يأخذ الله ودائعه. وتعتبر هذه الخاصية من أخطر الأمور في حياة المجتمعات، فالرئيس مدى الحياة والوزراء مدى الحياة، والنواب مدى الحياة (تزوير الانتخابات) والمقربون مدى الحياة، وهذا يثير كوامن الحسد والتذمر من قبل المجتمع ويؤدي إلى ختلاله وحجبه عن ولي الأمر، وفي كل العالم هناك سنوات محددة لتولي المناصب يتغير صاحبها بعد نهايتها ومهما كانت الكفاءة التي يتمتع بها، فإنه لمن المثير للحزن والضحك عندما نشير إلى إنسان بأن لا بديل له، فإذا مات كيف سيكون البديل؟
إن الأمم الحية والمتطورة لديها عدة صفوف، الصف الأول فالثاني فالثالث وهكذا، وكل صف يدرب الذي يليه، بالإضافة إلى العمل المؤسسي الذي يصدر عن قرار جمعي وليس فردي، وبذلك تبقى المؤسسة لتنفيذ أهدافها رغم اختلاف وتغير المسؤولين عنها.
إن الأبدية في الحكم والانتقال من موقع إلى آخر مثل حجارة الشطرنج لا يترك صاحبه موقعه إلا عند وصوله إلى لحده، وفي غالب الأحيان يحيا بأولاده كارثه كبيره على الأمة. والأنكى عودة الكرة مرة بعد أخرى فلا يعقل أن يمضي الشخص ما يزيد عن نصف قرن وهو في المسؤولية. إن الأبدية أخطر من الفساد، بل هي الفساد بعينه.
إن التبدل والتغير يجب أن يكون سمة للدول التي تريد الحياة لا سيما الأجهزة الأمنية منها، ويمكن الاستدلال على خطورة الأبدية في المسؤولية ما تم في إيران أيام الشاه، وما حدث في تونس، وما يجري في مصر، فمدير مخابراتها الذي أمضى ما يزيد على ربع قرن سواء في الاستخبارات العسكرية أو المخابرات العامة كان وراء ما وصلت إليه مصر. فالرجل تحول إلى سياسي يتابع قضايا كثيرة تاركاً متابعة أحوال المجتمع وما يجري فيه من فساد في مهب الريح. وقد وجهت إحدى المشاركات في المظاهرات المصرية سؤالاً إليه، عندما اتهم المتظاهرين بالأجندة الأجنبية، سألته أين كنت يا مدير المخابرات، وكيف جندت القوى الأجنبية ثمانية ملايين متظاهر، وكيف وصلوا إليهم، أين كنت، وماذا كنت تعمل؟
رابعاً: اعتماد الشللية لقد أشار ابن طباطبا إلى خطورة الشللية في الحكم منذ فترة طويلة، بل وقبله ما جاء في وصية عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان: "إذا وليت الحكم فلا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس".
وبالفعل كانت تولية عثمان لأقاربه أحد أسباب الثورة عليه.
وفي العصر العباسي كان لكل وزير جماعة يعلون بعلوه ويسقطون بسقوطه مما أدى إلى النهب والسيطرة على الثروات وكثرة الرشوات فظهر الكثير من الثورات أدت إلى واختلال الدولة وإضعافها.
وقد أشار الماوردي إلى هذه الخاصية وقال: "من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله، فقد ضيع العلم وأوقع الخلل".
خامساً: التستر على المسؤولين: إن هذه الخاصية تساعد على انتشار الفساد وكثرته، فلا بد من متابعة الرشوات والسرقات، ومحاسبة المقترفين لها دون تهاون، وعدم التباطؤ في توقيع العقوبات على المفسدين، فرب تأخير قضية يفسد سنة كاملة.
وأورد هنا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس فقال: "سئل رجال من بني أمية عن أسباب سقوط دولتهم وعن بدء زوال ملكهم فقال: تشاغلنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنها، ووثقنا بوزراء آثروا مرافقهم على منافعنا، وأبرموا أموراً أسَّروها عنا، فظلمت رعيتنا، ففسدت نياتهم لنا، وجدب معاشنا، فخلت بيوت أموالنا، وقلّ جندنا، فزالت هيبتنا، .... وكان أكثر الأسباب في ذلك استتار الأخبار عنا".
سادساً: إن الفساد يكثر الإشاعات، والإشاعات تؤدي إلى الإرهاصات، وهذه تؤدي إلى الثورة.
سادساً: عدم الاهتمام بالقوة الظليه: وهي قوة الشباب الساكنة وهذه تشكل نسبة عالية من المجتمعات العربية وقد ذكرت أن على صاحب الأمر أن يكون مثقفاً بثقافة عصره، ولما كان الانترنت من أهم ثقافة العصر، وقدرته على التواصل، لم تدرك الأجهزة العربية المسؤوله أن هناك جيلاً نشيطاً مثقفاً متابعاً لمخترعات العصر، وأن المعلومة تصل إليه في سرعة فائقة، كما أ ن متابعي هذه الخاصية هم أصلاً من المتمردين على كل شيء لما يسمعونه ويرونه عند الأمم الأخرى ويقارنوه بما لديهم فيصابون بالصدمة، وهؤلاء جميعاً هم في سن البطولة والمثل الأعلى، وهذا المثل يرونه عند الآخرين، ولا يرونه في دولهم، يعجبون كيف يسأل مجلس العموم البريطاني رئيس الوزراء أو إمرأته عن استخدام طيارة مملوكه للدولة في سياحتهم، وهم لا يجدون من يسأل المدير أو الوزير عما يستخدمه من أموال الدولة لصالح أموره.
وبهذه المناسبة كان أحد الأشخاص وهو يمتطي سيارة الدولة لا يترك مناسبة فرح أو عزاء إلا ويشارك بها، وعندما أحيل على التقاعد لم يعد الناس يرونه فهل نحاسب مستخدمي سيارات الدولة على استخدامها خارج الدوام الرسمي.
إن القوة الظليه قوة لا يستهان بها، ولذا يجب الاهتمام بتفكيرها وعقلها ومقدراتها، فعندما اغتيل إسحاق رابين بل وفي يوم اغتياله، قام شمعون بيريز بزيارة إحدى المدارس الثانوية ليسألهم عن الأسباب التي أدت إلى اغتيال رابين. ويومها دهشت للأفكار التي طرحها طلاب مدرسة ثانوية يعجز عنها بعض أساتذة الجامعات في عالمنا العربي.
سابعاً: تدخل النساء في شؤون الحكم عن طريق الوساطة والقرابة، وقد وضع الكتبي مخطوطاً بين فيه وصول العديد من الوزراء إلى الوزارة عن طريق النسوة..." وهذه الظاهرة موجودة لدى الأمم منذ أقدم العصور، إلا أن استفحالها في الدولة يؤدي في غالب الأحيان إلى انهيارها.
إن النساء يشكلن شبكة معقدة في المجتمع، ومتى بدأت عدوى التدخل فإن الأذرع تتجه إلى جميع مرافق الدولة. وأنا هنا لست ضد تسلم المرأة المسؤولية، ولكن ضد تدخلها في شؤون الدولة عن طريق الأزواج المسؤولين والقرابه النسويه.
إن لدى النساء ظاهرة في طبعهن وغريزتهن تتمثل في الرغبة بالإحاطة بكل شيء علماً، ومعرفة ما تحته وما فوقه، ليتممن النقص الذي فيهن، فهن يحكمن الأزواج والأبناء والصاحبات والعشاق، فإذا وجدن المجال ذا سعه، وكل من يلوذ بالمسؤولين سولت لهن أنفسهن أن يحكمن الرعية ويدبرن أمورها.
وبهذه الوسيلة تبدأ سهام الاتهام تتجه إلى خواص ولي الأمر، ويبدأ الناس بالقدح فيهم، وذكر مساوئهم إشاعات وحقائق، ويختلط المحسن بالمسيء والنظيف بالمفسد، فتكثر الارهاصات، يقول الراوذوري: وإذا كانت الخواص ممن يقدح فيهم، وتذكر مساوئهم، قلت الهيبة في النفوس، فيبدأ الناس بإظهار الأخبار بعد أن كانت نجوى بينهم، ثم تصبح النجوى إعلاناً، فعند ذلك تقع المجاهرة، وترتفع المراقبة، ويتحكمون على ولي الأمر تحكم الآمر المأمور، والقاهر المقهور". وفي تاريخنا معلومات وفيرة عن تدخل النساء في شؤون الدولة وما آلت إليه حال هذه الدول؛ فقد وصفت دولة الخليفة المقتدر (ت932م) بأنها دولة النساء. وذكر ابن طباطبا ذلك وقال: إعلم أن دولة المقتدر كانت ذات تخليط كبير، لصغر سنه، واستيلاء أمه ونسائه وخدمه عليه، فكانت دولة تدور أمورها على تدبير النساء والخدم وهو مشغول بلذاته، فخربت الدنيا في أيامه، وخلت بيوت الأموال، واختلفت الكلمة فخلع ثم أعيد ثم قتل.
لقد تحكم بالمقتدر أمه "شغب" وخاله (هارون) وخالته (خاطف) وشكل هؤلاء شبكة لإدارة الدولة رافقها قيام الخدم بإفشاء الأسرار أبرزها أن شغب أرادت أن تحاكي العامة بالمشي على الطين، فأحضر لها المسك والعنبر فعجن ومشت عليه، كما أشاعوا أنها تطلي النعال بالمسك والعنبر المذاب، ولا تلبسه إلا عدة أيام. ولما لاقاه الناس من سطوة شغب أصر المتنفذون ـ الذين أبعدتهم ـ على تولية القاهر لسبب هو أنه لا يوجد له أم على قيد الحياة.
فالدولة إذا عمَّها تدخل النساء فسدت أحوالها ووهنت أسبابها وبدأ اختلالها وولى إقبالها وعند ذلك يكون الفساد أسرع من السيل المنحدر.
ثامناً: ازدواجية الفكر لدى ولاة الأمور في العالم العربي، فقد اعتاد هؤلاء ومنذ فترات طويلة على التصريح بأقوال في الخارج يخالفها تماماً ما يقال في الداخل، وقد استمر هؤلاء عليها متناسين أن الزمن قد تغير، وأن رسائل الاتصالات سريعة، وأن المراقبين والمتابعين يلتقطون الأقوال قبل خروجها من الأفواه. ولا أريد أن أضرب أمثلة بعيدة، بل مما أظهرته وثائق المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل وغيرها من أقوال الرؤساء مؤخراً وهو ما يؤكد إلى ما ذهبت إليه.
إن من شروط السياسة أن يفي ولي الأمر بقوله وعهده، وأن يصدق في وعيده ووعده، وأنه متى أخلف استولت على المحسن الخيبة، وزالت عن المسيء الهيبة، ومن قارب بين التولية والعزل لا يعقل.
إن إدارة الدولة وتصريفها يجب أن يسير وفق أمور واضحة لا لبس ولا غموض فيها، فالتدبير إذا بني بعيداً عن الصواب، وإن خفي في الابتداء ظهر على طول الزمان، مثل من ينحرف عن جادة الطريق انحرافاً يسيراً ولا يظهر انحرافه في البداية إلا بعد أن يطول به السفر.
تاسعاً: الاعتقاد بالعدو الوهمي لأنظمة الحكم. فالأمة العربية ومنذ العصور الحديثة وهي تعاني من العدو الوهمي ونسيان العدو الحقيقي. فعندما سار جيش مصر إلى بلاد الشام عام 1831م. بدأت الدول الأوروبية تنشر إشاعات خطر هذا الحاكم الجديد الألباني الأصل الذي يريد الانفصال عن الدولة العثمانية المسلمة، فوقف الجميع ضده رغم أنه حاول تنظيم البلاد وتحسين أحوال العباد. وبعد خروج محمد علي من الشام بدأت الدول الأوروبية تخوفنا من الدولة العثمانية التي ستطمس لغتنا وتبقينا في الجهل والمرض، وهي سبب تأخرنا، فما جاءت الحرب الكونية الأولى حتى وقفنا ضدها، وخرجت من بلادنا لنقع تحت قبضة الاستعمار وبدلاً من دولة واحدة صرنا دولاً (قبائل) وأعلاماً. وبعد العثمانيين ظهر عدو وهمي جديد هو الشيوعية، فحاربناها ونحن تحت الاستعمار، وبقينا في حربها. إلى أيام أفغانستان، وأقبلنا من كل صقع وواد إلى الذهاب إلى أفغانستان لإخراج الروس منها، وفلسطين على مرمى حجر نبخل على أهلها بالفلس والدرهم.
وبعد الشيوعية صار العدو الوهمي القومية، وهي الحركة التي تزعمها جمال عبد الناصر، وبدأت مقاومته من قبل العديد من الحكام العرب بتحريض من الغرب، وما أن هزم عام 1967 حتى تنفس هؤلاء الصعداء واكتملت الفرحة بموته.
وبعد القومية صار العدو الوهمي لنا تركيا فدفعناها إلى إقامة علاقات حميمة مع إسرائيل، ولم نحاول أن نكسب ودها إلى جانبنا، فالعراق كانت في خصومة معها، وسوريا تأوي المناوئين الأتراك.
وبعد تركيا صار العدو الوهمي إيران، وجرى ما بين العراق وإيران ما جرى، وخرجنا من الحرب ليكون العدو الوهمي مختلطاً هذه المرة فتارة أسلحة صدام حسين الفتاكة، وتارة أخرى الإرهاب الإسلامي والتطرف الإسلامي، وما يزال ذلك حتى هذه اللحظة تارة تحت خوف التطرف وأخرى تحت السلاح النووي لإيران، والعدو الحقيقي يغط في النوم العميق يؤهل غيره لمقاومة هؤلاء الأعداد الوهميين.
عاشراً: الاستخفاف بوعي المواطن: نظراً لعدم توفر الشرعية في الكثير من الأقطار العربية، فالملجأ الوحيد لهؤلاء اعتبار الأمة مثل قطيع من الأغنام، ليس لهم من الحياة إلا فتات الخبز. إن احترام حرية التفكير هي من أهم مقومات الحرية السياسية، وإذا كنا نؤمن بأن التاريخ هو تغير الزمان فلا بد من الإيمان بأن الحرية تشكل الأساس الذي يبنى عليه مستقبلنا التاريخي.
إن الاستخفاف بوعي الأمة أشد خطراً من سلب الحرية، وأشد خطورة من العبودية، إن هذا الاستخفاف بالوعي سببه الأول اضطراب الأحوال السياسية في الوطن العربي، وتلقي أنظمة الحكم الضربات من الخارج، فيا ترى ما الذي يدفع رئيس وزراء إسرائيل أن يقف أمام الولايات المتحدة ويفرض شروطه، ويجعلنا ننكص كل يوم على أعقابنا. السؤال بسيط فمن يريد من ولاة أمورنا معارضة الولايات المتحدة لن يحول عليه الحول لعدم حمايته بالشرعية الوطنية، ومن هنا عليه أن ينكص وأن يجبر غيره على النكوص. والسبب الثاني لمظاهر الاستخفاف هو جعل المواطن يفقد الثقة بالقوانين، فأصبح لدى المواطن حقيقة مفادها أن هذه القوانين إما أن تكون عرفية أو وساطية تتغير وتتبدل وفق مصالح صانعيها.
وقد اتبع هذا الاستخفاف بفقدان مبدأ تكافؤ الفرص، واحتكار الغنائم وجعلها على فئة قليلة من الشعب حتى غدت بعض الدول تدار من قبل أفراد معينين ينتقلون من موضع إلى آخر كأحجار الشطرنج كما أسلفت، في ظل الحكم الشللي أو العائلي.
لقد تناسى ولاة الأمر أن القلق والاضطراب يفعلان فعلهما في تنبيه الوعي. وقد لاحظ المفكر الروسي نقولا براديف أن عهود النكبات في التاريخ الإنساني كانت دائما حافزة إلى التفكير في الماضي والمصير، ومثيرة للاهتمام في تفسير التاريخ وتعليله.
إن عدم التوجيه الإعلامي والتعليمي الصحيح من قبل الدول فتح المجال أمام الجميع دون وضع ضوابط لمظاهر الحياة المختلفة، أهمها الاهتمام بالنخبة قد أدى بنا إلى أن نحلم جميعنا بالوظيفة الرسمية، ومن هنا كثرت البطالة، وأصبحت القوى العاملة بدلاً من أن تكون موجهة للإنتاج أصبحت تتجه نحو الوظيفة الرسمية والتي لا يمكن للدولة أن تستوعبها، فبدأت الحركات الدينية والتي أساسها الفقر والذل بالازدياد ما يدفعنا إلى عدم تصديق الأرقام المعلنة عن زيادة الإنتاج والدخل القومي لأنها تخفي وراءها جيوباً من المتاعب، كما استشرى بين كافة قطاعات الأمة فلسفة الاغتناء السريع فاستشرى الفساد والغش والسرقة.
إن ما تقدم يحتم علينا أن نتعلم ليس فقط توقع الأخطاء، ولكن أن نبحث عنها بحثاً واعياً، لقد سئمنا قول حكامنا أنهم دائماً على صواب بل عليهم أن يخضعوا للرقابة كما يخضعون الأمة لطاعتهم، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق المحاسبة للجميع فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وباعتقادي لا يوجد أمة تتلاعب بالأضداد كما يتلاعب ولاة الأمر، فالشفافية في حقيقة الأمر هي الضبابية، والحرية هي الاستبداد، والديمقراطية هي الديكتاتورية، وحتى الحب يعني لديهم الكراهية.
لقد أصبحنا نشعر أننا في بعض الأحيان نعلم ولا نعلم، نثق ولا نثق، إن احترام فكر الإنسان وعدم امتهانه أمر مطالب به الجميع لإنقاذ مجتمعاتنا من الانزلاق نحو الهاوية، فيكفي الإنسان العربي من الأزمات العميقة، أزمة في الفكر، في الضمير، في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
إن إعلام الدول العربية يملأ الذاكرة ويدع الفكر والضمير فارغين، مثلنا في ذلك مثل الطيور التي تذهب للبحث عن الحب لالتقاطه لصغارها بمناقيرها دون أن تلمسه، وهكذا نلتقط الأوامر والنواهي دون أن نؤمن بها، وشتان بين معرفة القانون وفهمه.
كل هذا خلق لدينا النفاق الفكري، وهذا لا يقل عن الكوارث الطبيعية، فحزب المنافقين هو أكثر الأحزاب عدداً وحضوراً في المجتمع العربي، ورافق ذلك أن ولاة الأمر لا يستسيغون إلا أحاديث هؤلاء المنافقين، ولم يعلموا أن هؤلاء دوماً يخدمون أكثر من سيد في اللحظة الواحدة.
ولأجل معالجة ما سبق لا بد من التنمية السياسية وهي في أبسط صورها: تغيير الأنماط الاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل. وهذه التنمية تقوم على مقومات ثلاث هي:
- المساواة: ومن صورها البارزة إسناد الأمر إلى أهله وفق مفهوم الكفاءة والتفوق، وليس بمفهوم العرق والدين والقرابة والوراثة. كما تقوم هذه المساواة على تحقيق المزيد من المشاركة الشعبية في وضع السياسات العامة في اختيار الأشخاص لتولي مناصب الدولة.
- التمايز بين الأشخاص وتعني التخصص والفصل بين الأدوار حيث أن عدم الفصل يؤدي إلى جمود النمطية. إن انتقال الأفراد من موقع إلى آخر وبكثرة هو الكارثة بعينه، كما أن الديمومة في المواقع المتقدمة أول خطوات الانهيار. والذي لا يعيش عصره، ولا يدرك متغيراته سيبقى قابعاً في ظل أوهام عفى عليها الدهر.
- القدرة: وتعني ضرورة توفر قدرات معينه للنظام السياسي، ليس فقط لمعالجة التوترات بل الاستجابة للمطالب الشعبية قبل فرضها بالمشاركة والعدالة في التوزيع والمساواة. والقدرة على مواجهة التغيرات المستمرة التي يعيشها المجتمع.
لقد أدت سياسات ولاة الأمور ـ المتقنعة وراء حفنة صغيرة من المجتمع ـ إلى تكريس مفاهيم لدى الأمة أبرزها:
- العجز عن تشخيص عللنا وأمراضنا وعدم الدراية بما يجب علينا فعله.
- الإفراط في الشك والاتهام والإفراط في النقد وتقبل الإشاعة، والاهتمام المفرط في صغائر الأمور.
- زرع الأوهام في ذهن ولي الأمر أن كل شيء يسير بنظام.
- سيطرة أصحاب البطون الجرباء على مقدرات الوطن.
وللخروج من هذه الأمور لا بد من إرادة القوة وثورة التجدد وتشخيص العلل، فالدول العربية ولدت مريضة وستبقى مريضة إذا لم يكونوا كالخليفة المنصور عندما سأل ابنه المهدي كم راية عندك؛ قال: "لا أدري. قال هذا والله التضييع، وأنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً... فاتق الله فيما خوَّلك".
وقبل موته أوصى المهدي أيضاً: إياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، ووسّع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم... فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان... وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك وأسئ الظن بعمالك وكتابك،وخذ بنفسك بالتيقظ، وسهل إذنك للناس، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ.
"ربنا إنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنو بربكم فامنا" صدق الله العظيم