الفساد آفة اجتماعية مدمرة

الحديث عن الفساد الذي استشرى في مجتمعنا وبقوة كباقي المجتعات الاخرى التي تنخرها هذه الافة الخبيثة. الفاسدون موجودون في بلدنا وفي كل الفترات ومنذ الاستقلال إلى اليوم ولو بدرجات متفاوتة،فوجود الفاسدين في كل المجتمعات وعبرالعصور شيء طبيعي، فلايخلو أي مجتمع في العالم من الفساد والفاسدين..

لكن المشكلة اليوم ان هذا الفساد صار ثقافة ومعلومة وسلطة خبيثة يوظفها بعض خفافيش الظلام الفاسدين المتحكمين في رقاب الناس لخدمة اغراضهم الخاصة. كما ينبغي القول، كما ان هناك الفاسدين والمفسدين هناك ايضاالشرفاءالصالحين والمصلحين.واليوم فالفاسدون المفسدون وأمام صمت الصالحين والمصلحين الأخيار تراهم يحتكرون الساحة مثل الصراصير،بل ويريدون السطو على كل مفاصل الحياة العامة للبلاد. الفساد والإفساد صار بواحا وشبه علني مع سكوت الأخيارالصالحين والمصلحين وسكوت غير مفهوم سياسي وسلطوي وحتى نقابي .. فهو فساد متغول يتخفى تحت أقنعة مختلفة ،ويتسمى بأسماء ومسميات مختلفة وملتبسة . أسماء ومسميات نعرفها جميعا، وتعرفها الطبقة الحاكمة جيدا، ويعرفها الفاسدون والفاسدون المفسدون أيضا.ولهذا نرى دائما الفساد ينخر البلاد ولانرى أبدا الفاسدين المفسدين، مما يجعلنا نقف أمام جريمة حقيقية وواضحة لكن بدون مجرمين معلومين،وكل جرائم الفساد تسجل دائماضد مجهولين..وحتى الحكومة الحالية وسابقاتها تعترف بوجود الفسادوانتشاره، وجميها رفعت موضة شعار محاربة الفساد ،وانتهى بهاالامر في نهاية المطاف الى رفع الراية البيضاء؟! ..وفي الميادين العامة الجميع يشهرون سيوفهم الورقية اللامعة لمحاربة هذا الفساد الضبابي اللعين وفلوله، يرفعون اللافتات الأنتخابية وهم يصرخون ويصخبون في الشوارع العامة ،ولاتسمع منهم سوى صواريخ من الكلام القتالي تتطاير هنا وهناك الى اتجاهات مختلفة رافعين شعار:"الشعب يريد اسقاط الفساد..".. لكن ما ان يحصل أحدهم على وظيفة بالزبونية، أو حقيبة وزارية،أو رخصة استغلال معينة بطرق ملتوية، أو امتيازغير شرعي يدر عليه أرباحا سمينة، وما ان يعرف اين تؤكل الكتف، حتى تراه يتكلم على غير عادته بكلام ناعم ويصبح ويا للمهزلةمن أشد المدافعين عن الفساد .في حياتنا مئات الحالات شهدنا على تبدلها في المبادىء والسلوك بين عشية وضحاها حين حصلوا على قطعة عظم ملأوا بها أفواههم كالكلاب الضالة ،وهذه معضلة كبرى..والمشكلة اليوم، ليست في استفحال فساد الفاسدين المفسدين الأشراروأمثال هؤلاء الكلاب الضالة التي تتنازع على قطعة عظم وعلى جيفة المصالح الشخصية القذرة، بل المشكلة ايضا في صمت الصالحين والمصلحين الأخيارعن كل مايجري من فساد وإفساد، وما تثيره هذه الكلاب الضالة من عراك وفتن ومنازعات في المجتمع وفي بعض مفاصل الحياة العامة للبلاد.
فحين سكت اهل الحق، كما قال علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، اعتقد اهل الباطل انهم على حق.. ، هناك نوعان آخران من المسؤولين الفاسدين المفسدين، وهذان النوعان يمكن ان نميز بينهما «إما مسؤول فاسد مفسد لا يعرف نتائج وعواقب أفعالة ( مغفل )يمكن أكتشافه و القبض عليه ، وإما مسؤول فاسدومفسد حرامى محترف لا تستطيع أجهزة الرقابة و المكافحة الحكوميةالإمساك به بالوسائل القانونية و الإدارية بسبب حرفيته »، وكلاهما يرتدي بدلة عصرية بربطة عنق انيقة او بدونها، كما يرتدي بدلة عسكرية وبدلة وزير وبدلة نائب وبدلة مدير عام وجلباب وعمامة رجل دين.. وجميعهم من حملة الدرجات الجامعية على أختلاف درجاتها و مسمياتها.
ولنبدأ بالاول والذي هو المغفل ،فهو المسؤول الذى يتولى المسؤولية وهو جاهل بكل شىء، وبالطبع لأنه مغفل، فمن السهل جداً قيادته، أو جره إلى أي فساد (لأنه مسؤول فاشل يؤدي عمله عن جهل) .. ومن طبيعة المغفل الاصلية انه يحمل على ظهره أحمال واثقال دون ان يعرف ما فيها.ويمشى المغفل مغمض العينين يساق ولا يسوق، والمشكلة عندما يتولى مثل هذا المغفل أي مسؤولية فإنه يضيّع كل شىء. ومن الممكن أن يستغل أحد غباءه وفشله وعدم حرفيته فى أداء مهنته ويورطه فى أشياء محظورة كثيرة، مستغلا أنه مغفل.. ويكتشف فى النهاية أنه وقع بغبائه فى الفخ الذى نصبه له أحد الفاسدين العفاريت لأنه مغفل بليد جاهل، وبذلك تسقط ورقة خريفه من شجرة المسؤولية التي لايفهم فيها شيئا..

أما المسؤول الفاسد المحترف ،على خلاف المسؤول المغفل،فهو ذكي وعارف من أين تؤكل الكتف.. نجد هذا الفاسد العفريت يؤدي عمله بالشكل الذى يعود عليه بالنفع لأنه فاهم ما يسمى في عرف "الحرامية" بقواعد اللعبة (أي قواعد الحرمنه).. ولا مانع أن يكون الحرامى «محترف» فى عمله بل «مخلص» فى أدائه ولو ظاهريا على الاقل للتمويه.. لكن كل ذلك لا يمنع أنه حرامى عفريت متمرس في فنون الخداع والتلون كالحرباء ،وتجده في هذا الطريق وفي تعامله في إطار المسؤولية يرفع من قيمة الإنتهازيين، والخونة، والراشين، والمرتشين واللصوص والمنافقين وأصحاب الوجوه العديدة والمتقلبة من المغفلين ليجعل منهم حطب نار سيشعله متى كان في حاجة اليها.. لأنه يجيد فن السرقة والنهب بكل احترافية وإثقان ،ولايبقي وسيلة وحيلة من السرقة والنهب الا وجربها مع المرتزقة والبطانة المنافقة التي تحوم حوله كل يوم كالذباب.. أو بمعنى بسيط، ينجح فى عمله حتى يتمكن من إتمام مهمته وتجريب حيله فى السرقة والنهب، وكثيرا ما كان يقيم الحفلات والولائم لأصحاب النفوذ من رؤسائه والمسؤولين الكبار.. فيستغل ذكاءه ودهاءه لإخفاء معالم جريمته بدم باردة، ولايدخل مجالا بدون ان يعرف مسبقا كيف يخرج منه.. بحيث يصبح أمام الجميع ذلك البرىء الطيب الذي "يفيد ويستفيد"ويقضي المصالح الشخصية للجميع ولو على حساب المصلحة العامة ،والمصلحة الخاصة دائما هي باب من ابواب الفساد العريض كما تعلمون. فإذا علا صوت "الانا" وتضخمت، ذهب العطف على الصغير ،وذهب الاحساس بالشيخ الكبيروالضعيف والمريض، ويموت الضميرويتزوج بالشيطان والويل يومئذ للمال العام..حتى إذا تبث تورطه في نهب اوسرقة، تجده قد ورط معه قطيع من المغفلين قوامه 1000 مغفل و أكثر من ضحاياه الذين استغلهم فى تحقيق مآربه وأهدافه وزيادة حصيلته من السرقة والنهب في غفلة منهم. ولا غرابة ان نسمع أن امثال هؤلاء قد عجزت لجن المراقبة وحتى المحاكم عن إدانتهم بسبب عدد رؤوس المغفلين الكثيرة التي ورطوها معهم باستخدم قاعدة"يفيد ويستفيد" التي عبرها يعطي الحرامي العفريت لقطيع عريض من الاغبياء السدج ما يكفي من علف الشعيرالحرام ليلف الحبل حول اعناقهم جميعا، وبسبب علاقات النفوذ التي نسجها مع اصحاب الحال عبر الولائم والحفلات البادخة الكثيرة..وهذا ما لايقوم به المغفل الذي إذا سقط في الفخ يسقط به لوحده لأنه ببساطة مغفل كان يأكل لوحده بغباء مفرط دون ان يورط غيره من الأعبياء بحبل يشركهم معه جميعا..بينما الحرامي المحترف بسبب عدد الأغبياء الذين ورطهم،وبسبب علاقات النفوذ مع المسؤولين الكبار، قد يقلب الطاولة على من نعته بالاصبع، خاصة اذا كان بالمفرد في زمن الضحايا الفرديين وما اكثرهم اليوم بيننا.. فعوض مواجهة الحرامي العفريت الذي احتمى بقطيع عريض من الأغبياء كدروع بشرية، ولأنه حرامي كان ايضا يسرق وهو مؤطر بشرعية قانونية والتي حقيقتها الاحتيال على القانون لزيادة ارباحه الخاصة من النهب، وبما أنه نسج علاقات كثيرة مع اصحاب المعالي و السعادة و العطوفة، يتم قلب الطاولة على الصالح المصلح المفرد الذي نعته بالاصبع بنسج مكيدة ضدية تجيز قطع اصبعه الذي اشارالى فساده، لينسل الحرامي من الورطة مثلما تنسل الشعرة من العجين ويبقى بدون عقاب .وهذا ما يحدث في الغالب لينجو الحرامية من المتابعات ويربحون ما يسمونه ب"اللعبة"، وبهذه الطريقة ايضا تم القضاء على عدد كبير لايستهان به من الرجال الشرفاء في البلد.وبهذه الطريقة ايضا تطرد العملة الزائفة العملة الصحيحة في سوق النزاهة والاخلاص والشفافية والتقدم في البلاد.

والمحصلة النهائية لهذه العملية الفظيعة جدا ياسادةهي، انه بسبب هذين النوعين من الفاسدين المفسدين السالف ذكرهما اللذين يسيئان لانفسهما وللمؤسسات والدولة والمجتمع، وامام غياب الرقابة الحكومية و النيابية الجيدة والنزيهة والقوية ،سلك الفساد في بلدنا طريق التقليد الأعمى ،ومع غياب اوسكوت غير مفهوم للشرفاء الصالحين والمصلحين ووقوفهم بعيدا على التل دون مقارعة، ظن اغلب الناس ان الفاسدين على صواب وأصبح جلهم يُقلدون المفسد، بدل أن يُحاربوه، أو على الأقل يفضحوه في وسائل اعلام مختلفة ويبلغون عنه، وذلك أضعف الإيمان.والأخطر من كل هذا، هو أن الحرامي الفاسد المفسد الذي تنمر بالفساد ،ورغم ان لاشرف له ولاناموس، تراه قد تحوّل إلى بطل يتهافت على مصافحته الناس بالطرقات والشوارع والمقاهي والمساجد، بشكل يوحي احيانا بأن حتى العامة من الناس بسبب سيادة الجهل والامية الفظيعة لايرغبون في القضاء فعلا على الفساد، بقدرما يسعون الى انتزاع نصيبهم من كعكته مادام ان ذلك سيؤمن لبعضهم لقمة سهلة لوقت من الزمن قد يطول او يقصر وبأقل التكاليف..غريب امرنا في هذا البلد الكريم الذي انقلبت فيه الاية.. ترى متى سيعرف الناس جميعا ان انتشار الفساد مؤذن بخراب العمران كما قال العلامة ابن خلدون منذ قرون؟..