تعذيب الفلسطينيين لا يصنع أمنـًا
حين تورط صاحبنا في تصريح دعا فيه الى فتح معبر رفح أمام فلسطينيي قطاع غزة، فإنه تعرض للاتهام والتجريح من قبل من وصفوا بأنهم «سياسيون» إذ اعتبر كلامه دليلا على الجهل بمقتضيات الأمن القومي لمصر. وكان ذلك هو العنوان الذي نشرته جريدة الاهرام على ستة أعمدة يوم الخميس الماضي 10/10. وأصل الحكاية ان السيد حمدين صباحي مؤسس التيار الشعبي والقيادي في جبهة الانقاذ كان قد التقى بعضا من ممثلي حركة حماس يتقدمهم الدكتور موسى ابومرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، وفي اعقاب اللقاء قال السيد صباحي كلامه الذي استفز اولئك النفر من السياسيين الذين كنت اتصور انهم ادري من غيرهم بحقائق الموضوع. وبالتالي توقعت منهم ان يكونوا اكثر رصانة ومسؤولية في التعبير عن ارائهم ازاءه. لكن ما قرأناه منسوبا اليهم فيما نشرته «الاهرام» يكشف عن بعض أوجه الأزمة التي تعاني منها بعض عناصر النخبة المصرية الجديدة، التي تعاني من الفقر في الإدراك والمعرفة، ينطبق ذلك على قائمة طويلة ممن يكتسبون تلك الالقاب الكبيرة بمجرد ظهورهم على شاشات التليفزيون الذي يوزع عليهم تلك الالقاب بالمجان.
النقطة الجوهرية والتي اتكأ عليها اولئك السياسيون هي ان فتح معبر رفح يعد تهديدا للأمن القومي المصري، لم يقل احد لماذا يعد كذلك، ولا أورد واقعة واحدة تدعم ذلك الرأي، لكنهم اعتمدوا على الانطباع الشائع في اوساط عامة المصريين الذي يعتبر حركة حماس التي تدير القطاع تهديدا لأمن مصر، وان الانفاق التي حفرها الغزاويون للتغلب على الحصار وتوفير احتياجاتهم المعيشية ليست «سوى منافذ لتهريب الاسلحة والارهابيين الى داخل سيناء، لتحويلها الى قاعدة دولية للارهاب العالمي». وهذه العبارة الأخيرة وردت على لسان احد السياسيين الذين تحدثت إليهم جريدة الاهرام. واستطرد (صاحبنا بالمناسبة هو متحدث باسم حزب التجمع اليساري) قائلا ان مصر لن تشعر بامان كامل على حدودها مع رفح الفلسطينية، إلا بعد سقوط حركة حماس من السلطة، لأنها امتداد لحركة الاخوان وفرع عن التنظيم الدولي، ورغم ان آخرين رددوا الفكرة ذاتها بدرجة أو أخرى، إلا أنني تعمدت اقتباس الفقرة التي وردت على لسان القيادى اليساري ــ الذي يكاد يتبني بالكامل وجهة النظر الاسرائيلية ازاء حركة حماس ــ لكى يدعونا ذلك الى تصور المدى الذي يذهب اليه اليمين في مصر.
لقد دعوت أكثر من مرة في السابق الى تفنيد التهديد من خلال تقصي حقائق الانطباع الشائع الذي يعتبر الانفاق وحماس في القطاع بمثابة تهديد لأمن مصر. لأن ذلك الانطباع تحول بمضي الوقت الى عقيدة استقرت في اوساط عامة الناس ونخبهم السياسيين والأمنية. وهذه الحقيقة تشكلت بفعل حملات التعبئة الإعلامية، وروجت لها اطراف لها مصلحتها ليس فقط في تسميم العلاقة بين مصر وحماس، ولكن لها مصلحة أيضا في ضرب المقاومة واحكام الحصار المفروض على فلسطيني القطاع لتركيعهم واذلالهم. ولا يشك أحد في ان اسرائيل صاحبة المصلحة الاولى في ذلك، كما اننا لا نستطيع ان نتجاهل الدور الذي لعبته الأجهزة الامنية التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، التي لها ثأرها الذي لم تنسه ازاء حركة حماس، وكانت الوثائق التي نشرت مؤخرا قد كشفت النقاب عن الجهد الذي تبذله للوقيعة والدس بين حماس ومصر، حكومة وشعبا.
إن جهابذة السياسة الذين تحدثوا عن تهديد حماس والانفاق لأمن مصر، انطلقوا من الاستسلام للاكاذيب الإعلامية التي لا دليل عليها، وابدوا استعدادا مدهشا للقبول باحكام الحصار حول القطاع، غير مبالين بمعاناة او تدمير حياة اكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في غزة، الأمر الذي يمكن ان يؤدي في حال استمراره الى المساس بأمن مصر الذي يدعي هؤلاء انهم حريصون عليه.
في حين ان فتح معبر رفح واخضاعه لاشراف السلطة المصرية كأى معبر حدودي آخر هو الحل الحقيقي الذي يحمي مصالح الطرفين المصري والفلسطيني.
اننا لا نستطيع ان نحمي أمن مصر بمضاعفة معاناة الفلسطينيين ثم ان الامن لن يقدر له ان يتوفر ويستقر إلا إذا تم التوصل الى صيغة توفق بين المصالح المصرية والفلسطينيين في القطاع، هذا اذا كانت مصر تملك قرارها وبوسعها ان تتحرر من حسابات وضغوط الاطراف الاخرى التي لا تتمني الخير لا لمصر ولا للمقاومة في القطاع.
إنني لا أمل من التذكير بأن نزاهة الموقف ازاء قضية فلسطين هى احد معايير الوطنية المصرية، من ثم فإن وطنيتك تصبح مجرَّحة اذا انحزت باسم الامن الى صف تعذيب الفلسطينيين وتركيعهم مقدما بذلك هدية مجانية لإسرائيل.