يوم التغابن

يقول الله عز وجل : " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ". (سورة التغابن : الآية : 9 )
تصور الآية الكريمة مشهداً من مشاهد يوم الحساب , هذا اليوم الرهيب الذي يجمع الله تعالى فيه الخلائق كلها على مختلف الأزمان والعصور ومنذ أن خلقها , في صعيد واحد ليحاسب ويوفي كل نفس جزاءها على ما قدمت وأخرت من أعمال ليوم جمعها هذا .
قال ابن كثير : سمي " يوم الجمع " لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد , يسمعهم الداعي وينفذهم البصر , كقوله تعالى : " ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ .." سورة هود : الآية 103 .(مختصر ابن كثير ـ 3 / 509 ) .
وهذا اليوم العظيم تشهده وتحضره الملائكة كافة وبأعدادها الهائلة , التي لا يمكن تصورها إلا من خلال ما تكشفه لنا الأحاديث النبوية الشريفة وبما يتقارب من إدراكنا:
أخرج الترمذي عن أبي ذر , رضي الله عنه , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أرى ما لا ترون , وأسمع ما لا تسمعون . أطت السماء وحق لها أن تئِط , ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى , والله لو تعلمون ما أعلم, لضحكتم قليلاً , ولبكيتم كثيراً , وما تلذذتم بالنساء على الفرش , ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى " (صحيح الجامع: ح 2449 , وصحيح ابن ماجة: ح 3378).
فكم يكون عدد هذه الملائكة التي هي حاضرة مع الخلائق في يوم الجمع هذا مع اتساع السموات كافة والتي تظهر فيها شمسنا مع عظم حجمها وكأنها هباءة طائرة , ومع هذا فليس هناك موضع من أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد ! !


" ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ "
التغابن : أصله من الغبن , وهو أخذ الشيء بدون قيمته , والمغبون : من غبن أهله ومنازله في الجنة . ( انظر: تفسير الخازن : 4/104).
وفي هذا اليوم يغبن أهل الجمع بعضهم بعضاً , فيغبن أهل الحق أهل الباطل , وهل هناك من غبن أعظم من غبن أهل الجنة لأهل النار ؟ .. وكأن أهل النار يستبدلون الخير بالشر , والجيد بالرديء , والنعيم بالجحيم , فيأخذ منهم أهل الجنة ما كان لهم من خير في الجنة من الأهل والمنازل , وذلك لأن لكل كافر أهل ومنزل في الجنة فيما لو أسلم , وكذلك المؤمن فإن له منزلاً في النار يستبدله مع الكافر , فيأخذ المؤمن منزل الكافر الذي في الجنة , ويأخذ الكافر منزل المؤمن الذي في النار .
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال قال رسول الله  ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فاذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ". (الدر المنثور: ج6/ص90).
وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله منزلان , منزل في الجنة ومنزل في النار , فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة , ويهدم بيته الذي في النار , وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة , ويبني بيته الذي في النار , فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أطاعوا ربهم عز وجل . (تفسير ابن كثير: 3/240).
كما ثبت أيضاً في صحيح مسلم ( ح 2767) , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : " إذا كان يوم القيامة , دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً , فيقال : هذا فكاكك من النار " فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك , قيل : فحلف له .
" وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ "
فالإيمان الصادق بالله تعالى وما يتبعه من الأعمال الصالحة , يأتي بالنتيجة الطيبة التي تكفر وتزال معها السيئات , فمن وقع منه التصديق مع العمل الصالح أستحق تلك النتيجة .
" وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ "
وهذا هو أثر الإيمان الصادق والعمل الصالح بعد تكفير السيئات .. جنات الخضرة , والبساتين التي تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار المختلفة ألوانها .
" خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا "
ومع نعيم البساتين , أيضاً نعيم الخلود والبقاء الأبدي الذي لا يأتي عليه وقت أو زمان ينقص منه أو يحدد بقاءه وزواله .
" ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ". "
وذلك هو الفوز الذي لا فوز قبله , والسعادة التي لا سعادة تطولها وتوازيها .