ابن خلدون والغربال



في مقدمته لكتابه ، والتي نالت شهرة أكثر من الكتاب ذاته وارتبطت به ارتباط الاسم بالمسمى يؤكد ابن خلدون على صورة المجتمع الإنساني بوحدته التكاملية بالإنتاج الجماعي التعاوني من خلال رحلة حبة القمح من يد الفلاح إلى يد الطحان وانتهاءً بالفران لتصبح زينة المائدة ، ويقوم بالشرح والتفصيل لهذه الرحلة ليثبت لنا أهمية التعاون المجتمعي ، بل أن وجودنا مرتبط بهذا التعاون ، ولا نختلف مع هذا الطرح .
إذا كان الإنسان ابن بيئته فأنا لم أغادر طفولتي القروية بكل صور التعاون الإيجابي الذي ما زلت أحتفظ بها داخل ألبوم الذاكرة ، واليوم أرى أن ابن خلدون هيّج في نفسي فكرة رحلة القمح ولكن بصورة جديدة لم يعشها ابن خلدون كما عشتها أنا ، فلكل منا بيئته وعصره .
بلدتي بكامل هيبتها سهلية ، كل شبر فيها يدعوك لزيارته ، وكان يحلو لي النظر إلى الأهل بعد الحصاد والاستراحة على البيادر ، وأكثر ما كان يشدني حركة حبات القمح في الغربال ، وخوف الحبات من السقوط ، كانت كل حبة تحاول أن تتمسك بأختها أو تستند على حبة تحتها ، فقد كانت تعلم أن الحبة التي تسقط مصيرها النسيان ، لكنها لم تكن تعلم مصير الحبة التي لم تسقط فهذا في علم الغيب ، المهم عندها أن لا تسقط تحت أقدام " المغربل " ، وكنت وقبل أن أقرأ رحلة حبة ابن خلدون أعلم أن مصيرها الطحن ، ومن ثم العجن ،لتأخذ أشكالاً مختلفة من الصناعات العجينية ، وبعده يأتي دور النار في الفرن ..استذكر هذه الصورة وأرانا كأمة عربية إسلامية نشبه كثيراً حبات القمح في الغربال ، وأرى القوى العظمى هي المغربل بكل تفاصيله ، أرانا نخاف السقوط ، وإذا نجونا فنحن طعام لهم ، أحاول أن أكون أكثر تفاؤلاً لأستبدل التشبيه بما يليق بنا لكنني أفشل في محاولاتي ، فمن الذي جعل منا حبة في غربالهم ؟؟ ومتى سنكون الحاصدين والمغربلين ؟ متى !!!!