فشل المفاوضات .. انسداد الأفق وتغيير قواعد اللعبة



في 23 أيلول 2011، بعث الرئيس محمود عباس، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة جاء فيها:
"يشرفني، أن أقدم، باسم الشعب الفلسطيني، هذا الطلب الذي تقدمه دولة فلسطين، للانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، استناداً إلى الحقوق الطبيعية والقانونية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وإلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 د -2 المؤرخ 29/ تشرين الثاني نوفمبر 1947، فضلاً عن استقلال دولة فلسطين المؤرخ 15 تشرين الثاني نوفمبر 1988، واعتراف الجمعية العامة بهذا الإعلان بموجب القرار 43/ 177 المؤرخ 15 كانون الأول ديسمبر 1988" .
لقد سبق هذا القرار، والتقدم بطلب العضوية، من قبل فلسطين، العديد من الجهود والاتصالات التفاوضية مع الجانب الإسرائيلي، برعاية أميركية مباشرة، سواء في عهد الرئيس بوش، عبر مفاوضات أنابوليس، أو في عهد الرئيس أوباما نفسه، وخاصة في ولايته الأولى، وعلى اثر تسلمه سلطاته الدستورية مباشرة، ولكن هذه الجهود اصطدمت بالمواقف الإسرائيلية المتطرفة والمتعنتة في عدم استجابتها لقرارات الأمم المتحدة، وفي الإجراءات الإسرائيلية في ممارسة التمدد والتوسع والاستيطان في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي رفض حكومة نتنياهو بدء التفاوض من حيث انتهت مع حكومة سلفه، يهود أولمرت، (راجع كتابنا "المفاوضات وصلابة الموقف الفلسطيني" الصادر في عمان عن دار الجليل لسنة 2011) .
بعد فشل المفاوضات التقريبية، وفشل المفاوضات المباشرة، وانسداد أفق التسوية تحت الرعاية الأميركية، سعت منظمة التحرير عبر نضالها الدبلوماسي لتحقيق خطوات سياسية تراكمية تجعل من الحقوق الفلسطينية، موضع ترحيب من قبل المجتمع الدولي، واتساع الاعتراف بها والإقرار بشرعيتها، وذلك عبر دخول المؤسسات الدولية، وفي طليعتها عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة تجسيداً لحق الشعب الفلسطيني في نيل دولته المستقلة والاعتراف السياسي والقانوني بها.
وقد سبق القرار الفلسطيني، محاولات أميركية، تدفع باتجاه منع منظمة التحرير من تقديم طلب العضوية إلى الأمم المتحدة، والضغط على الأطراف الدولية للتراجع عن مواقفها المؤيدة لمنظمة التحرير، ففي اجتماع للجنة الرباعية على المستوى الوزاري في واشنطن يوم 11 تموز 2011، اقترحت الولايات المتحدة الأميركية مشروع بيان، على الاجتماع الوزاري لأعضاء الرباعية الدولية، وتضمن للمرة الأولى اقتراحات لم تُطرح سابقاً في اجتماعات او بيانات الرباعية، وتضمن مشروع البيان الأميركي المقترح:
أ‌ - الاعتراف بدولة إسرائيل كوطن للشعب اليهودي ودولة يهودية.
ب ‌- رفض خيار تقديم طلب عضوية لدولة فلسطين في الأمم المتحدة.
ت ‌- حدود الدولتين لن تكون خطوط الرابع من حزيران 1967.
ث‌ - الانسحاب الإسرائيلي يعتمد على مدى تقدير إسرائيل للقدرات الأمنية الفلسطينية.
ج‌ - لم يأت مشروع البيان على ذكر الاستيطان، أو المرجعيات المحددة لعملية السلام.
كان واضحاً أن الإدارة الأميركية وبالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، تحاول من خلال هذا الاقتراح تغيير المرجعيات المحددة لعملية السلام، وتحديداً قرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها "242" و"338"، أي تغيير مبدأ إعادة الأرض مُقابل السلام، وقد رفضت روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، هذا المقترح جملة وتفصيلاً.
قبل لقاء اللجنة الرباعية بأيام، وتحديداً يوم 6/تموز/2011، تم عقد لقاء في وزارة الخارجية الأميركية بين وفد فلسطيني ضم صائب عريقات ونبيل أبو ردينة ومعن عريقات مع فريق أميركي ضم السفير ديفيد هيل ودنيس روس وجوناثان شورتز وآخرين، وحاول الفريق الأميركي خلال هذا اللقاء تمرير أفكار لاستئناف المفاوضات دون تحديد مرجعيات أو سقف زمني، وطلبوا تراجع منظمة التحرير عن خيار الذهاب إلى الأمم المتحدة، لطلب العضوية لدولة فلسطين، سواء من خلال مجلس الأمن أو الجمعية العامة، وقد أدت هذه المواقف إلى انسداد تام لمُحاولات استئناف المُفاوضات (كما خلص إلى ذلك صائب عريقات مسؤول دائرة المفاوضات في منظمة التحرير، وسجل ذلك في تقاريره ودراساته المقدمة إلى اللجنة التنفيذية وإلى اللجنة المركزية لحركة فتح) .
خلال ذلك كانت القيادة الفلسطينية، تعرف أن طوني بلير مبعوث الرباعية، يقوم بإجراء اتصالات مع الجانب الإسرائيلي لإيجاد صيغة لمشروع بيان للجنة الرباعية، ولما تأكدت المعلومات بهذا الشأن قدم الجانب الفلسطيني احتجاجاً للإدارة الأميركية، وللبارونة أشتون، والاتحاد الروسي، والسكرتير العام للأمم المتحدة، وتم إعلامهم أنه لا يمكن قبول أي صيغة خارج إطار المرجعيات المُتفق عليها والبيانات السابقة للجنة الرباعية.
وقد تبين الموقف الأميركي وتعرى بالكامل، خلال الاتصالات الفلسطينية الأميركية، وكان أهمها لقاء الرئيس أبو مازن مع الرئيس أوباما في نيويورك يوم 21/9/2011، ولقاء مع وزير الدفاع الأميركي ليون بنيتا في رام الله يوم 3/10/2011، بما يلي:
- رفض خيار التوجه إلى الأمم المتحدة، سواء أكان عبر مجلس الأمن او الجمعية العامة. التأكيد على أن الإدارة الأميركية سوف تستخدم "الفيتو" في مجلس الأمن ضد أي طلب تتقدم به مُنظمة التحرير الفلسطينية لعضوية فلسطين. القول الصريح ان طرح مشروع قرار في الجمعية العامة لرفع مكانة فلسطين إلى (دولة غير عضو) سيؤدي إلى قيام الكونغرس بقطع المُساعدات عن الشعب الفلسطيني. تكرار الموقف بوجوب إيجاد صيغة لاستئناف المفاوضات المُباشرة، دون وقف الاستيطان أو قبول إسرائيل بمبدأ الدولتين على حدود 1967. وهذا ما ورد في مُكالمة هاتفية أجرتها الوزيرة هيلاري كلينتون مع الرئيس الفلسطيني يوم 5/9/2011. العمل على منع الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين من القيام بذلك.
كان واضحاً أن موقف الإدارة الأميركية، قد قرر اعتماد موقف حكومة نتنياهو، ولم تكن المسألة تتعلق بمواقف الإدارة الأميركية أو المصالح الأميركية، او التطورات الحاصلة في العالم العربي (الربيع العربي)، وانعكاساتها على الموقف الأميركي، بل أصبح واضحاً أن موقف إدارة الرئيس أوباما، إنما هو انعكاس دقيق لسياسة حكومة نتنياهو، إلى الحد أن واشنطن أرسلت رسائل لأكثر من 70 دولة طالبت فيها بعدم الاعتراف بدولة فلسطين أو التصويت لعضويتها في الأمم المتحدة.
في ضوء هذه الخلاصة في تقييم مواقف المشروع التوسعي الاستعماري الإسرائيلي الرافض للتسوية واستحقاقاتها وشروطها، وموقف الإدارة الأميركية المتناغم مع سياسة حكومة نتنياهو العدوانية التوسعية، ومحاولات طوني بلير المعبرة عن سياستي واشنطن وتل أبيب، اتخذت القيادة الفلسطينية، قراراً بتغيير قواعد اللعبة، واتخاذ زمام المبادرة لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني عبر المؤسسات الدولية، وتطويق إسرائيل، وهزيمتها أخلاقياً ودبلوماسياً، وتحقيق المزيد من الخطوات الإجرائية والتنفيذية التي تجسد مكانة فلسطين وحضورها وحقوق شعبها، وكانت الخطوة الأولى، عبر تقديم طلب العضوية لمنظمة "اليونسكو"، يوم 31/10/2011، حيث حصلت فلسطين على دعم 107 دول مقابل 14 دولة صوتت ضد فلسطين.
والانتصار الفلسطيني كان مميزاً، ليس فقط عبر تصويت أغلبية دول العالم معها، بل إن المجموعة الأوروبية كان لها دور في هذا الانتصار فقد صوتت 11 دول أوروبية من دول الاتحاد الأوروبي لصالح فلسطين وهي فرنسا، بلجيكا، فنلندا، النمسا، إيرلندا، لوكسمبورغ، سلوفانيا، مالطا، قبرص، اليونان وإسبانيا، وامتنعت عن التصويت 11 دولة، وصوت ضد فلسطين 5 دول فقط هي ألمانيا، ليتوانيا، التشيك، هولندا والسويد.
طبعاً الولايات المتحدة وقفت مع موقف العدو الإسرائيلي، وأصدرت خارجيتها بياناً اعتبرت فيه "أن تصويت الدول لصالح عضوية فلسطين في "اليونسكو" يعتبر أمراً مؤسفاً، وسابقاً لأوانه، ويُضعف الهدف المشترك للتوصل إلى اتفاق سلام شامل ودائم في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة ستبقى قوية في دعمها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ولكن ذلك يجب أن يتم من خلال المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين" .
ولم يكن موقف الخارجية الأميركية كافياً ببيانها هذا يوم 31/10/2011، بل اتخذ الكونغرس قراراً بتجميد تحويل المساعدات الأميركية للسلطة الوطنية الفلسطينية، إضافة إلى قطع المخصصات المالية الأميركية عن "اليونسكو" .
h.faraneh@yahoo.com