عقلنة العقل العربي ام شيطنته؟!

في عصر الموازين الالكترونية التي تتاثر بالنسمة وتزن حبة الخردل،ما زلنا نزن بموازيين الجزر الشاقولية،ونجري العمليات الحسابية على اصابعنا.ما يعني اننا بعيدون عن روح العلم و التأصيل العلمي،ونناصب النقد العقلي العداء،لمجرد انه اداة عقلية بارعة للكشف عن عيوبنا،ووضع العلاج الناجع لمواطن الخلل عندنا.واقع الحال يؤكد ان اوضاعنا لن تنصلح الا بالخروج من نظام الفزعة الموروث من عهود البداوة والفلاحة الى البحث العلمي القائم على تحديد الاهداف،مرفوقاً بالتخيل الابتكاري لصياغة نظرية قابلة للتطبيق، فالامم لا تتقدم بالاغاني الحماسية ولا عدد براميل النفظ المنتجة بل بعدد المبدعين بها والمتفوقين فيها .

*** التشدق بامجاد الماضي،والمبالغة بالادعاءات المكذوبة،موروثات جاهلية لم تزل تعشعش في عقولنا الباطنية،وتتحكم في سلوكياتنا.الشاعر عمرو بن كلثوم رغم موته منذ قرون،لم يزل حيا يرزق في "اللاوعي الجمعي العربي"،فهو اشهر صائغ عنتريات لفظية، تصل حدود الهستريا المرضية .اليس هو القائل"ملأنا البرَ حتى ضاقَ عنا / وماءُ البحرِ نملأهُ سفينا"؟. كلام مجاني تجاوز حدود المبالغة في شطره الاول، لكنه كذب في شطره الثاني.فالعرب صحراويون لا يركبون البحر لانهم اهل خيل وعجاج. لذلك نهى الخليفة العادل عمر بن الخطاب عن ركوبه :"من دخله مفقود ومن خرج منه مولود".ما يؤسف له ان التشدق المكذوب اصبح اسلوب حياة،و العرط الذي"لا يقلي بيضاً " صار طبقنا المفضل .

*** في الاسابيع الماضية اعلنت المجلات العلمية عن ثلاثة اختراعات مذهلة. مراهق يخترع طريقة حديثة لتنظيف المحيطات من التلوث، ناسا ترسل مركبة فضائية استكشافية الى مسافات فلكية للبحث والدراسة خلف المجموعة الشمسية، غوغل تطرح في الاسواق سيارة من دون سائق تجوب المدن المزدحمة بمهارة عالية بواسطة مجسات استشعار دقيقة للتقليل من حوادث السير الناتجة عن الاخطاء البشرية.الماساة ان العرب الذين يشكلون 4 % من سكان العالم مستهلكون حتى ملابس البالة و الاحذية القديمة لا يوفرنها ،و رغم جعجعتهم وعنجهياتهم لم يحصلوا الا على جائزتي نوبل نوبل" نجيب محفوظ واحمد زويل اما جوائز السلام والحرية التي حصل عليها " السادات،عرفات،البرادعي،توكل كرمان" فهي رشوات سياسية.


*** بالمقابل اكتشف العالم في"موسم الربيع العربي الثوري" ،ان غالبية الشعوب العربية تنتمي لـ "حزب الكنبة"،حزب الأكثرية الساحقة، جل أعضائه من العاطلين عن الوطن والرافضين الخوض في قضايا الهم العام الذي هو همهم،فيما شغلهم الشاغل الاسترخاء والتثاؤب .دور العضو المنتسب بعد انتهاء دوامه الرسمي،يقتصر الانبطاح على ارض غرفته، او التمدد فوق كنبة للبحلقة في التلفاز ثم طقطقة ازرار الريموت على ايقاع طقطقة بزر البطيخ او فصفصة عباد الشمس الرخيصة، و تناول المياه الغازية بالحجم الكبير للتخلص من النفخة التي تصيبه بسبب قلة الحركة،ثم الاستغراق في كسل يفوق كسل الحيوانات القطبية اثناء بياتها الشتوي .

*** هذا يعني ان مجتمعنا العربي، يعيش ظواهر سلبية انعكست على حياته،وشلت تفكيره:ارقام التنمية و انحدارها ،خطابات النواب الشعبوية وفجاجتها،شعارات اعضاء المجالس البلدية وتهافتها،هتافات مشجعي الكرة ورعونتها،تحليلات السياسيين ـ باستثناء القلة ـ وسذاجتها،حوارات الزعماء المبجلين ومفاصلها التاريخية،صراعات الديكة من اشباه المثقفين على الفضائيات وتفاهتها،افتتاحيات الصحف الرسمية النفاقية وتكرارها.تسويق الناعقين الاعلاميين لـ " نظرية المؤامرة" وقدرة الانظمة على صدها. الفاجعة المفجعة تكمن في مقالات "الكتبة السحرة" "الكتبة الكذبة" وقدرتهم الزائفة على تحويل "هزائمنا الرخيصة" الى "انتصارات ثمينة"،مع ان الاجدر تحويلها الى سلة المهملات الشعبية لانها مثل جهنم الحمراء تتسع لمثل هذه السخافات وتقول: هل من مزيد؟!.

*** الاسلام مثلا اعظم هدية من السماء لهذه الامة،لكن ماذا فعلنا بهذا الدين الحنيف؟!.الم نقتل ثلاثة خلفاء راشدين من اربعة ؟!.الم نُنكل باربعة من الائمة العظماء اصحاب المذاهب:.ابو حنيفة مات سجينا،الامام مالك شل عسس الخليفة يمينه لرفضه الاذعان لتاويل الاحكام بما يتلاءمم مع رغبة الحُكام، الامام احمد بن حنبل تعاقب على تعذيبه اربعة خلفاء في مسالة خلق القران،الامام الشافعي صاحب اعظم ذاكرة في التاريخ والعقلية العبقرية الاستشرافية جلبوه مخفورا بالقيود الحديدية من آخر الدنيا خوفا من قوة اثره وتاثيره.فالولاء للسلطة عندهم فوق العقل والمنطق " قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى".لذلك ابتدعت كل دولة نسخة من الاسلام تطابق توجهاتها.

*** في العصر الحديث شّيدت الانظمة العربية اعظم السجون المزودة بالزنازين،واستدعت اشهر خبراء ثم استوردت اشنع وسائل التعذيب لاذلال العقول وتعذيب النفوس،وقد بلغت ميزانيات الامن الداخلي ضعف ميزانيات الصحة والتعليم و الاشغال ،وعدد المخافر اكثر من المدارس،ففي حين نرى بعض مدارسنا آيلة للسقوط وبعضها اشبه بالزرائب،نجد ان السجون و مقار الاجهزة الامنية تضاهي القصور،فالاولى تفتقر لابسط المقومات من ماء وحمامات بينما الثانية فيها كل وسائل الترفيه الحديثة.الاغرب ان رؤساء "الاجهزة" في الوطن العربي اوسع شهرة من نجوم السينما و اكثر اهمية من العلماء، حتى ان السجون العربية في فترات الاحكام العرفية اكتسبت شهرة اكثر من الجامعات العريقة والصروح العلمية كسجن ابو زعبل و ابو غريب و المزة و الجفر والمحطة ـ الحمد لله ان اغلق الاخيرين ـ اما في المغرب العربي فسجن الباستيل التاريخي يعتبر منتجعاً بالمقارنة بسجون الاشقاء المغاربة. فالسجون لعبت دورا متقدماً في التعبئة المضادة للفكر التنويري،و العقول التقدمية .

*** سلوكيات قمعية لمعاداة العقل ولدّت عند الانسان العربي احساسا بالغربة في وطنه وشعورا عدميا بوجوده، دفعه للتمرد على الدولة ومحاربتها بالسلاح في "العراق سوريا ليبيا السودان الصومال" و عدم الاعتراف بشرعيتها في دول اخرى. فهاهي الحروب الاهلية،والصراعات الدموية،والفتن المذهبية،والانقسامات الداخلية،و تهجير الاخرين و اقصائهم يدل دلالة جلية على اشكالية العقل العربي و اصابته بعقدة الخوف من الاخر جراء قمع التتار والصليبين مرورا بالعثمانيين والمستعمرين و انتهاء بالحكام الوطنيين الذين نكلوا بخارطة جسده الجينية،وعبثوا ببرمجة عقله ودمروا روحه،الامر الذي يستدعي علاجه سلوكيا ودوائيا حتى لا تفلت اموره..!

*** العقل العربي لعب دورا فاعلا في حفظ الحضارة الانسانية والفكر اليوناني،ثم انحسر بعد ذلك في عصور الظلم والظلام ،وتم حبسه تارة خلف قضبان المقدس الديني،مع ان الدين الاسلامي دعوة للتفكير و الانعتاق نحو الحرية " افلا تتفكرون؟!.... افلا تعقلون؟!. وقل رب زدني علما...هل يستوي الاعمى والبصير؟!". وتارة اخرى جرى اعطاب العقل العربي بالاستبداد السلطوي،وفرض الرقابة الحديدية على الانسان و تكميمه منذ صرخة الولادة حتى شهقة الموت تحت ذرائع ومسميات باطلة لان قمع حرية الانسان تتناقض مع جِبلتة المفطورة على التفكير الحر.السبب الرئيس لإزمة العقل العربي حبسه داخل حلقة جهنمية من المحرمات لم يفلت منها الا النزر اليسير،اما الذي استطاع الافلات من الاعتقال او التنكيل بمعجزة فقد هرب للخارج ولم يعد.

*** ان الله خلق الانسان في احسن تقويم،واجمل صورة،وكّرمه بتنصيبه خليفة له على الارض ،حتى قال العباقرة" ان العقل البشري ظل الله على الارض،لان المعرفة و الابداع لا حدود لهما.لذلك نحن احوج ما نحتاج اليوم لاستعادة مكانة العقل، ليقود ثورة التغيير،وتفعيل قيمة العمل.اذ ان المنطلقات باتجاه المستقبل لن تكون واقعية، الا باعلاء قيمة العقل و تحجيم صوت الحناجر التي لا تنتج الا الضجيج،من اجل رفع وصمة العار من ان العرب مجرد ظاهرة صوتية، ليس لها وزن في الموازيين الدولية.