وحوش .. وخنافس !
مشكلتنا في العالم النامي عامة والعربي بخاصة اننا لا نريد ان نعمل شيئا على الإطلاق للمصلحة العامة بل نريد طيلة الوقت ان نصنع من انفسنا شيئا على حساب الآخرين داعسين في طريقنا الآخر ومصلحة الآخر من فرد أو جماعة او وطن ، فلا شيء يهم ما دام اننا نخدم جنون عظمتنا التي صنعتها أوهامنا ..
والحقيقة ان من ساعد على تجذير هذا التوجه هو تمترسنا خلف شخصيتين متعاكستين إما الشخصية «الخنفسية « التي يطلقون عليها «النسْناسيَّة «، ونقيضتها الشخصية المتهورة المتغوّلة الأقرب الى الوحش الكاسر.. وكلاهما يفتقدان الى الشخصة المتميزة بالاعتدال والموضوعية والجرأة الأدبية والمتوخية عادة المصلحة العامة ، فترى الغالبية ترزح تحت عبء شخصيتين متناقضتين : شخصية شديدة الضعف متميّعة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة من جهة ،وأخرى متغوِّلة من جهة أخرى تفرز عدوانيتها كلما تطلّب الأمر ذلك مما أفقد الإنسانية كل مزاياها إلى الحد الذي اصبحنا فيه بزمن اذا قيل للحجر كن انسانا لقال : عذرا لست قاسيا بما يكفي !!
ونتيجة لهذه المتوالية الهندسية من تناقض الضعف والتغول يزداد الخنفس ضعفا ، والوحش تغولا .. ويختفي المعتدل ونقع جميعنا بدون استثناء في كمائن العنف والتخلف الناجمين عن التشرذم والانقسام ..
وأما السبب وراء هذا الانقسام المنفلت البعيد عن المنطق والواقعية والموضوعية فإنه ينجم عن عدم ادراكنا ماهية الفرق بين ان نريد أن نفعل شيئا ، أو نريد ان نكون شيئا ..
فهنالك نسبة كبيرة في عالمنا يتناسون المصلحة العامة في خضم التركيز على المصلحة الشخصية مما يؤدي إلى تزعزع البنية التحتية للمصلحة العامة حتى تصل إلى نقطة اللاعودة فتنهار من تحت ارجلنا ونقع في الهاوية مندهشين متسائلين ولسان حالنا يقول لماذا حدث هكذا انهيار دون ان ندرك بأنه من صنع ايدينا ! فالإهمال المستمر لكل ما هو عام سيمتد بالنهاية الى كل ما هو خاص مهما طال الزمن .. فلكل بداية نهاية ..
فحدود الشيء تنتهي عادة عندما تبدأ حدود أخرى بالظهور سواء أكانت هذه الحدود ملموسة أو محسوسة .. مادية أو معنوية .. فمثلا الانقلاب من حالة المنطق الى اللامنطق .. أو الوجود الى الفناء .. أو التقدم الى التخلف ..الخ لا تحدث فجأة ، بل يتخللهما فترة انتقالية تحمل خليطا من تراكمات العناصر الطاغية في الفترة الاولى لتصل الى نقطة مفصلية يحدث فيها التغيير النوعي الذي ينقلنا الى مرحلة ثانية .. تماما كمرحلة الانتقال من فصل الصيف الى فصل الشتاء حيث يتخللهما فصل الخريف الانتقالي حاملا عناصر الفصلين متقلبا بين حر وبرد حتى تطغى عناصر البرودة فيحدث الانقلاب الشتوي .... ولهذا فانه يمكن معالجة الكثير من المشاكل في بداياتها من خلال رصدها ومتابعتها قبل أن تقوى عناصرها وتستفحل فتحدث المفاجأة الكبرى .. لنتساءل بعدها كيف ولماذا ومتى وأين ؟ بينما كانت المؤشرات تظهر بين الحين والآخر تدق أجراس الخطر ولا من مستجيب !
فمثلا من الأخطاء الفاحشة المتداولة والتي هي فعلا مقصودة في عالمنا العربي أنه كثيرا ما تتم معاقبة المعتدل الموضوعي وغض النظر عن الوحش المتغول خوفا منه ، ويتم الضغط على المعتدل حتى يقع في هوّتين اما هوة الخنافس ليتجنب العقاب ويسير مع القطيع مهما كانت وجهته ،او يتغوّل ويكشر عن انيابه ويصبح وحشا كاسرا ، فنكون قد حولنا بتوجهاتنا المعكوسة الشريحة المعتدلة واخرجناها عن اطوارها لنكون بالنهاية الخاسرين اولا واخيرا نتيجة تصرفاتنا العشوائية الناجمة عن رغبة أولى وأخيرة راسخة باعماق البعض وهي أنا اولا وليأت من بعدي الطوفان !
ايضا كثيرا ما نسمع هذا القول» فلان لازم يعرف حجمه «.. حيث يقصدون هنا إمكانياته .. وكفاءاته .. وقدراته ....الخ ..فالبعد الأيجابي لهذا القول يحث على استعمال الحكمة والتريث قبل الإقدام على أية خطوة مهما بدات متواضعة .. .. الا أن البعض قد يستعملها قصدا بصورة عكسية سابغين سلبياتها على أصحاب القدرات الكبيرة وكأنهم يطالبون هؤلاء المتميزين بوضع أنفسهم في إطار يعجزون فيه عن الحراك والانطلاق الى الأمام . .. في حين يتغاضون عن اصحاب القدرات الضعيفة !
فأعادة التحجيم ضرورية اذا وقعت في مسارها الصحيح ولم تستعمل بطريقة عكسية .. لأنها لا تعكس نفسها فقط على صاحبها الذي يتم تأخيره قصدا أو تقديمه عمدا .. بل ستنعكس على المجتمع الصغير والكبير بداية بالأسرة وانتهاء بالمجتمع والأوطان ...
ومن أجل ذلك ينبغي على الفرد الطموح صاحب المهارات والكفاءات ان يبتعد عن المحبطين الساعين الى تقزيمه ليحيط نفسه بآخرين يشجعونه .. إن استطاع !!
وهذا لا يعني عدم الأنصياع لنصائح الآخرين ، لأنه ما يزال هنالك أناس حكماء ومخلصون ينبغي الاستفادة من توجيهاتهم ، مطالبين هؤلاء الحكماء برفع وتيرة الوعي المتعلقة بأهمية تشجيع أصحاب القدرات المميزة بين الناس .. لأن ذلك يفيد المجتمع والوطن بأسره !
واخيرا حتى نضع النقاط على الحروف فقد آن الأوان التوقف عن الخلط بين الأضداد مهما تشابهت السِّمات وتقاربت الصفات ......فشتّان ما بين الوقاحة والجرأة الأدبية ..وبين الحزم والعدوانية..