أوروبا قديما والعرب الآن , صراعات بـ اسم الأديان ..

منذ النشأة البشرية على هذه الارض ظهرت حاجة الانسان الانقيادية للبحث عن اله يعبده , فكان ادم ابو البشر ومن بعده ان عكفوا على عبادة الاله الواحد عبر التوحيد , وما سمي لاحقا بالابراهيمية وهي الديانة التي تدعو لعبادة اله واحد لا شريك له , وانبثقت عنها لاحقا الديانات السماوية الثلاث الابراهيمية التوحيدية وهي اليهودية والمسيحية والاسلام , وقد عرفت البشرية اعدادا لا حصر لها من الديانات والمعتقدات والملل والطوائف التي سارت على نهجها وتبنت معتقداتها , وكان من البشر من اتباع اي دين بصفة عامة ان ترى كل طائفة انها على صواب وان الاعتقادات الخارجة عن اطار ملتهم هي اعتقادات كفر وجب اجتثاثها وقتل اتباعها , انا لست هنا لاتحدث عن اي الديانات أصح , فكل متدين لا يرى في غير دينه صواب وهذا امر ثابت في التصرف البشري .

الخلاف بين الديانات والمذابح التي شهدها التاريخ لاسباب دينية وباسم الاديان ليست ما مميز التدين , بل ان التاريخ الخاص بالدين الواحد يشهد انشقاقات وظهور طوائف من اتباع نفس الديانة بسبب خلافات تاريخية وعقائدية وسياسية وشخصية كثيرة , مما يؤدي الى حدوث انقسامات وظهور طوائف متنازعة , كلها تدعي الحق وترفض الاخر , هذه الخلافات بين الطوائف تجدها ظاهريا تحمل مبدأ واحدا بالرغم من وجود تنظيرات تفصيلية معقدة جدا ومملة ومضحكة احيانا ، وهذه القضية لن يفهمها أحد ، ولكنها بالحقيقة خلافات شكلية مصطنعة تخفي خلافات تاريخية وسياسية ووطنية عميقة وشخصية في كثير من الأحيان !!

تاريخيا وفي الديانة المسيحية تحديدا , ظهرت انقسامات عديدة انبثقت عنها طوائف ثلاث كبرى اضافة الى ما لا يحصى من الطوائف الصغيرة والمتفرعة , اهم الطوائف المسيحية هم الأرثودوكس ( الشرقيين وتنقسم الى الكنسية المصرية والروم ) , والكاثوليك ( اتباع الكنسية الغربية التي يرأسها بابا الفاتيكان ) , والبروتستانت ( المحتجون – المنشقين عن الكاثوليكية ) .

حيث شهدت اوروبا صراعات دموية طويلة بين الطوائف المسيحية , وكان ابرزها الصراع بين الارثودوكسية والكاثوليكية الناجم بألاساس عن خلاف في مصالح الملوك وتنافس الامراء الذي ادى بدوره الى انقسام الدولة الرومانية الي شطرين شرقي وغربي ( ارثودوكسي وكاثوليكي ) وصلت الى حد نشوء الحملات الصليبية الكاثوليكية التي هاجمت وحرقت القسطنطينية الارثودوكسية لدرجة انها ساعدت المسلمين بانتصارهم في فتح القسطنطينية !!
وبعدها ظهر الانشقاق البروتستانتي عن الكاثوليك ( شمال اوروبا عن جنوبها ) لينجم عنه حربا استمرت لما يناهز الثلاثين عاما , باقتتال طائفي راح ضحيته ملايين الأبرياء حتى ان المانيا في حينها خسرت نصف سكانها جراء هذا الاقتتال , تلك الحرب التي بدأت لخلاف ديني مذهبي تطورت مع الوقت لتظهر حقيقة ان الاقتتال لم يكن سوى من اجل السيطرة على الدول الاخرى والاستعمار وتوظيف الدين من أجل المصالح الفئوية والشخصية لدى الملوك والمتنفذين , تلك الحرب كبدت اوروبا خسائر فادحة , ملايين القتلى والمشردين واراض يسكنها الخراب , انتشار الفقر والمجاعات والاوبئة .. حتى انتهت تلك الحرب بصلح " فستفاليا " .

اوروبا بعد عصر الصراعات الدموية احتاجت لقرون عدة حتى استعادت عافيتها , وبسبب الوعي الذي ساد المجتمعات الاوروبية والمسيحية بضرورة التوحد ونبذ الاقتتال , فقد نهضت اوروبا وشهدت تحالفات داخلية ووحدة أقاليمها لتنشيء فيما بعد اتحادا اوروبيا ضم فيما بينه جميع الدول والاطياف والمكونات من أجل النهوض والاستقرار والتطور .

النزاعات الطائفية التي شهدتها اوروبا في القرون الوسطى , تتطلب منا وقفة تأملية بنتائجها وأسبابها وكيف وصلت الامور بعقلاء اوروبا لوضع حد لتلك النزاعات من أجل الوصول باوروبا نحو بر الأمان وتوحيد الجهود لرفع مشروع الاتحاد الاوروبي والنهوض به رغم الاختلافات والنزاعات والنعرات التاريخية التي مزقت اوروبا لقرون .

شهد التاريخ الآدمي على هذه البسيطة ظهور الفئات الانتهازية التي غلّبت مصالحها الضيقة على مصلحة الجماعة لتوظف الدين والعواطف من أجل مصالحها و على حساب دماء الأبرياء , وهذا يعد درسا تاريخيا يجب على اتباع كافة الديانات الاستفادة منه وتحديدا المسلمين , حيث اننا نشهد منذ قرون صراعات طائفية تعصف بجسد الامة وتمزق امرها , فكل يوم تخرج علينا طائفة جديدة بفكر منشق وغريب في بواطنها تعود لأسباب فئوية ومصالح شخصية ضيقة وصراعا على الحكم , وما هي الا تجارب مشابهة للتجربة الانشقاقية في المسيحية , لذا كان من الأجدى لعقلاء الامة تعلم الدروس التاريخية التي كبدت البشرية أفدح الخسائر , نتيجة للأطماع الشخصية للبعض وتوظيف الدين في غير محله , وهذا ما تشهده حاليا دول المنطقة حيث تستثمر العاطفة الدينية في زج الابرياء داخل دوامات لا متناهية من الصراع التي تبدو في ظاهرها صراعات دينية , وتخفي في ما خفي استغلالا من بعض الفئات الظلامية لعواطف الناس خدمة لمشاريع مشبوهة تصب في صالح أعداء الامة , تماما كما حصل حينما سقطت القسطنطينية بيد الفاتح الاسلامي بسبب الصراع الكاثوليكي – الارثودوكسي والذي انهك قوام الارثودوكس وسهل مهمة الجيش الاسلامي في اسقاط العاصمة الرومانية المشرقية .

كان الاولى بالقومية العربية بأقل تقدير ان تعتبر من تاريخ أوروبا المظلم , وتعمل جاهدة من أجل النهوض بمشروع وحدوي عربي قومي , مع وجود العوامل المساعدة لذلك من وحدة اللسان والدين والمصلحة العامة المشتركة خلافا لاوروبا التي لم يجمعها سوى الصالح العام للشعوب الاوربية رغم الخلافات اللغوية والدينية والطائفية والتاريخية , نحن لسنا بحاجة الى صراعات طائفية تنهك قوام الامة وتزهق ارواح أبريائها لتدرك الامة مخاطر الانشقاق ومرارة الاقتتال , ومن لم يكن عبرة في التاريخ فلا حاضر له .