لصوصية النظام لا الشارع الغاضب
بدا مشهد الشبيبة التي تنهب مقر الحزب الحاكم ساخراً ومجسداً لفكرة التغيير. قاموا بعرض مسرحي على الهواء مباشرة، أمتعونا ونحن نراقب الرحيل المديد للديكتاتور. الشبيبة وأعمارهم ما بين عشرة أعوام وعشرين عاما، كانوا يحملون كراسي فاخرة من مختلف الأحجام، الكرسي من حق الشعب الكادح المظلوم وليس من حق اللصوص الظالمين. بعد أن انتزعوا الكراسي أحدهم يجرب الجلوس، وآخر يدفع الكرسي بعجلات، وثالث يحمل كرسيا يعادل ضعف حجمه مبتسما للكاميرا. وفي الخلفية دخان متصاعد من مقر الحزب الوطني.
في إحصاء نادر جرى في العام 1999، قدر عدد أطفال الشوارع في مصر بأكثر من مليونين (نفس عدد جهاز الأمن!)، وهم نهب للاستغلال والجريمة، وهؤلاء من حقهم أن يستعيدوا طفولتهم المستلبة على يد نظام الحزب الوطني الذي أهلك الحرث والنسل، لا استعادة الكراسي فقط. ومن يرمي بالأطفال في الشوارع، لا يستبعد عنه أن يدوس الكبار في سيارات الأمن المركزي كما في المشهد المروع الذي بثته الجزيرة. فالإنسان لا قيمة له، صغيرا كان أم كبيرا غنيا أم فقيرا. والذين ثاروا هم الذين يستعيدون المصري الحقيقي إنساناً له كرامة وحقوق.
إنهم شباب لم تنحن جباههم إلا لله، وكم بدا صفهم كأنه بنيان مرصوص في الصلاة يتصدون بصدورهم العارية لطغيان الأمن المركزي. ولا شيء كالصورة يثبت أن من يقبل على الموت توهب له الحياة، لم يرهبوا ولم يترددوا، هجموا على السيارات المصفحة يطلبونها كما تطلبهم تَرهبهم ولا يَرهبونها. ولا يشكون ظلمهم إلا إلى الله، يرددون ما قاله الصحابي للنبي "وقتلونا ركّعا وسّجدا..". يجري النيل تحتهم وكأنه يجيب عن أمل دنقل "ناديت: يا نيل هل تجري المياه دماً لكي تفيض، ويصحو الأهل إن نودوا؟"، بهم نباهي العالم، إنهم إخوة التوانسة، فالتونسية التي فقدت ابنها قالت إنها مستعدة للتضحية بالباقي من أجل دحر الديكتاتور تردد صداها في الاسكندرية أول من أمس.
لا توجد ثورات في العالم وفق مخططات هندسية محكمة، الثورة الفرنسية احتاجت ثلاث سنوات حتى استقرت الأمور، والثورة البلشفية استمرت ثمانية أشهر، وفي إيران عاشت البلاد نحو شهر في فراغ سلطة. مصر ستشهد حالات فوضى وعدم استقرار لكنها كلفة يسيرة للتخلص من نظام يمارس لصوصية منهجية منظمة. وهو كما سلفه التونسي يواصل نهبه المنهجي من خلال عصابات البلطجة. وهذه الكارثة تهون أمام سرقات أطفال الشوارع، وهي مشروعة لأنها بهدف البقاء على قيد الحياة.
حركة التاريخ تسير للأمام، وكلفة التغيير تهون كثيرا أمام كلفة بقاء نظام الاستبداد والفساد، وريث فرعون وهامان، إن الذين قضوا في مصر لا يصنعون واقعا أفضل فقط بل يرسمون غدا زاهيا لأطفال المستقبل، حتى لا يكونوا أطفال شوارع، إنهم على قول ناظم حكمت "أجمل الأطفال لم يولدوا بعد"، إنهم وعد الله "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ".