خرفان



قمت يوم أمس بالتوجه الى منطقة "البقعة" العامرة برفقة صديقي . . . المهمة تكمن بجلب ثلاثة من "الخرفان" وهم صاغرين مذبوحين "مسلوخين".

دخلنا سوق الخضرة في وسط البقعة وقت الظهيرة بشمسها اللاهبة ، وصلنا الى منطقة الملاحم وتوقفنا عند (اللحام) المنشود ، وسألناه أن يقضي حاجتنا بتأمين ثلاثة من الخراف الاسترالية "الاصيلة" ، قادنا الى المستودع حيث تنتظر الخراف حتفها ، وقفنا بباب المستودع بينما هو يخوض معركته في الداخل . . . اللحام من حيث الشكل هو أسمر الوجه ذو ذقن خفيفة متوسط القامة "نحيل" . . . للأمانة وحيث أننا دأبنا على اعتماد "الكروش" كمعيار للعلاقات فإنني لأول مرة أقابل "لحاما" ليس لديه كرش عملاق . . . يبدو أن للبقعة أحكاما خاصة.

عند باب المستودع حيث يقف صديقي وأنا من خلفه والصبية أصحاب العربات الذين ينتظرون بفارغ الصبر حكم رب الخراف أيها سيحيي وأيها سيميت ، ليضعوا من حكم عليه بالموت بالعربات في مراسم يحيكونها وصولا الى المذبح عند الملحمة في وسط السوق.

في لحظة غفلة منا واذا بأحد خراف "الداخل" يعلن التمرد ويصفع الباب بلمح البصر ليخرج من المستودع غير مقيد ، معلنا عن نيته الهروب من القدر المحتوم ، قفز اللحام من داخل المستودع واذا به يلتقطه بحرفية . . . اتهمنا اللحام في تلك اللحظة بالتقاعس عن الامساك بالطريدة . . . وأقسم أن هذا "الاسير" لو أفلت فإن كل "البقعة" لن تستطيع الامساك به . . . وحدث أنه ذات مرة هرب أحدهم فاضطر لـ (طخه) . . . اضطررنا لتصديق القصة ليرحمنا مما نحن فيه . . . رغم أن اطلاق رصاصة في تلك المنطقة المكتظة بشرياً تعني مئتي قتيل وألفين من الجرحى.

سيقت الخراف الى مصارعها . . . بينما نحن نتجول في السوق حتى يؤدي الذي ائتمن أمانته . . . في السوق مررنا بأحد "البسطات" التي يشرف صبي يقوم "بقلي" الفلافل . . . استفسرنا منه لمن يطهو في هذه الساعة الظهرية والأيام أيام صيام . . . فادّعى أن الاقبال أشد من الايام العادية !!!

عدنا الى "اللحام" المصطبغ برائحة الدماء . . . لحظات واذا به قد أنجز المهمة . . . آتيناه ما فرضه علينا من مال بعد معركة لا تقل ضراوة عن المذبحة المنتهية للتو . . . هممنا بالانصراف وقد خلص صديقي "التاجر" الى نتيجة مفادها أننا "تليفنا" ، "التليف" بالمصطلح المهني يعني أننا "تخورفنا" ، "الخورفة" بالمصطلح الشعبي تعني أننا دفعنا أكثر مما تستحق البضاعة على جهل منا بطبيعة السوق ، وهي حالة "تلقي الركبان" ان أردنا مصطلحا شرعيا للأمر . . .

أثناء كل هذه الاحداث كان هناك جندي مجهول يعمل في كل المراحل ، بداية من "زقط" الخراف ومن ثم تحميلها أثناء المراسم ، ومن ثم الذبح والسلخ ، وهو صبي في الرابعة عشر من عمره ، يعمل بدون كلل أو ملل طمعا بما ستعود عليه الصفقة . . . يناديه باعة السوق بإسم لم أتبيّنه في بداية الأمر . . . حمل لنا ما جنته أيدينا من لحم في عربته من وسط السوق الى حيث مركبتنا . . . بعد أن أدى ما عليه سألته عن إسمه فأجاب . . . أنس ، فقلت ينادوك بإسم آخر فما هو ؟ . . . قال اسمي الحقيقي أنس ولكن ينادونني "حكحك" . . . فقلت لم ألكثرة "الهرش" ؟ . . . قال لا بل لأنني "بظل أمضي السكاكين تاعة اللحامين وبظل ملزق عندهم" . . .

تأملوا معي جيدا هذا السوق البسيط وأسقطوه على واقعنا . . .

هناك "لحام" بدون "كرش" ، وهناك "خراف" منها "بلدي" ومنها "مستورد" ، وهناك "صبية" منهم من يعمل على طهو ما مأكله حرام ، ومنهم من هو "حكحك" . . .

للعلم فقط صديقي ادّعى أن "حكحك" له مهام أخرى اشتقت منها اللفظة لكن السياق الادبي لا يتسع لها . . . ولكن صدقوني هي جد مقنعة !!!!!