مصر يمّا يا بهية
كل الملايين العربية، تسمّرت يوم جمعة الغضب المصري أمام الشاشات، ولم تترك خبراً لفضائية يفوتها، أيديها على قلوبها، لأنها مصر، قلب العالم العربي، وشرايينها الممتدة لكل الجسد العربي.
منذ الصباح بدا يوماً غير عادي، يشبه يوم البوعزيزي في تونس، كانت الفضائيات العربية مستعدة للبث المباشر مهما كانت الكلفة، وكانت الفضائيات المصرية الخاصة والحكومية مستعدة أيضاً، الكل يلتقط الصورة، ويلتقط اللحظة.
تطورت الأحداث، وارتفعت أعداد المشاركين في يوم الغضب، تصريحات متعددة على الفضائيات، وضيوف من كل الاتجاهات، انقطعت الاتصالات وكل وسائل الاتصال الإلكتروني، قرر الحاكم العسكري فرض حظر التجول على محافظات القاهرة والإسكندرية والسويس، رغم أن أحداً لم يلتزم بالحظر، وبقي المتظاهرون يفترشون الشوارع ويواصلون مطالبهم.
اشتعلت النيران في مقرات الحزب الحاكم، ولم يخرج واحدٌ من الثلاثة ملايين ونصف الموقعين على استمارات العضوية فيه للدفاع عن الحزب الذي يمثلهم، غابت السلطة التنفيذية إلا من رجال الأمن الذين يعضهم الجوع والفقر أكثر من الشباب الغاضبين.
خرجت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وكررت كلمات الرئيس الأميركي باراك أوباما وتعاطفه مع المتظاهرين، والذين قال عنهم إنهم يعبرون عن "إحباطات مكبوتة لعدم حدوث تغيير ذي معنى"، وحث الحكومة المصرية والمحتجين على ضبط النفس، وحثت كلينتون الحكومة المصرية على السماح بالاحتجاجات السلمية وعدم حجب مواقع الإنترنت، قائلة إن أمامها فرصة مهمة الآن لتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية.
توالت المواقف الدولية وخاصة الغربية، وهي نسخ عن بعضها، ودعت إلى الاحترام الكامل لحقوق المواطنين بتنظيم مظاهرات سلمية، وأعربت عن قلقها إزاء استخدام العنف ووجود عدد كبير من الجرحى والمعتقلين.
وحده بكل صدق عبّر عن خوفه على مصر التاريخ والحضارة، وليس خوفه على مستقبل الحكم، المخرج المبدع خالد يوسف، حينما خرج على فضائية "العربية" وهو ينتفض ويحبس دموعه، خوفاً من أن تمتد يد العبث إلى المتحف المصري، "ليس المهم المال ولا الحكم، ولا غيره، المهم الآن تاريخ مصر وحضارتها". هكذا خرجت الكلمات بلعثمة الملهوف من فم المبدع خالد يوسف، مطالباً قوات الأمن والجيش وكل من يستطيع حماية تاريخ مصر ومتحفها، حتى لا يتكرر ما حصل مع تاريخ العراق عندما قام نفر بنهب متحفه وتراثه العظيم.
بعد يوم طويل على المصريين والعرب والعالم، خرج بعد منتصف الليل الرئيس المصري حسني مبارك، وألقى خطاباً، لم يقل فيه "أنا أتفهم مطالبكم"، بل أعاد التأكيد على الثوابت، والتزامه بالتطلعات المشروعة للشعب المصري وفق الدستور والقانون، وفي النهاية أعلن أنه طلب من الحكومة الاستقالة. أدركنا منذ البداية أن الشارع المصري لن يقبل بهذا، لأننا رأينا سابقاً أن الغضب التونسي لم يقبل بإبر تخدير مؤقتة، لأنه علم أن الألم سيعود وربما أشد من ذي قبل، لكن هذا الدرس التونسي سلط الضوء على ما يجري في الوطن العربي، وأكد يوماً بعد يوم أن التغيير تحصيل حاصل، بعد أن غيّرت الولايات المتحدة الأميركية من طريقة تعاطيها مع الأنظمة العربية، وأنها تقوم بتنبيه الكثير من الحكومات العربية إلى التطلع نحو الحركات الجماهيرية التي تسود شوارعها، محذرة من "الفوضى" كما تسميها، والتي من الممكن أن تندلع في الشوارع العربية في أية لحظة، مقدمة لهذه الحكومات (النصح) بتخفيف الاحتقانات الداخلية من خلال إدخال بعض الإصلاحات السياسية.
ما يحدث في الشوارع العربية شيء جديد، فلا الإخوان المسلمون، ولا الإخوان اليساريون، ولا الإخوان الليبراليون، ولا الإخوان القوميون، وراء التظاهرات الجماهيرية، بل مجموعات شبابية أتقنت طرق التواصل الحديثة، ولا تحتاج إلى حلقات حزبية كي توصل التعليمات، إنها تقود الشوارع العربية بكل عصرية وهتافات حديثة. شبّان عبّأهم ما بات يُعرف في أدبيات علم السياسة الحديث بـ "الإعلام الاجتماعي"، حولوا الإنترنت، وفيس بوك، ويوتيوب، وتويتر، والمدونات، إلى أدوات تعبئة وتنظيم للحركة الشعبية العامة.