ليسوا جوعى ولم يخرجوا للعنف والتخريب
الذين امتلأت بهم شوارع القاهرة والسويس والمنصورة ودمياط وسواها من المدن المصرية طوال الأيام الماضية لم يكونوا جوعى ، بمن فيهم الشهداء والجرحى ، تماما كما كان حال متظاهري تونس ، فمن يعرفون "الفيسبوك" و"تويتر" لن يكونوا بالضرورة من الجوعى ، وأجزم هنا أن معظم معدمي القاهرة من سكان العشوائيات والمقابر لم يكونوا بين المتظاهرين ، ربما لأن بعضهم لا يملك أجرة تاكسي للوصول إلى الشوارع الكبيرة التي تناسب الاحتجاج ، وربما لأنهم منهمكون في مطاردة لقمة العيش ، مع أن كثيرا منهم سينضمون لاحقا إلى مسيرات الاحتجاج إذا بقي الحال على ما هو عليه.
نعم ، الذين ملأوا الشوارع في مصر المحروسة لم يكونوا من الجوعى حتى يعدهم السيد الرئيس بتحسين رغيف العيش لكي يكون مناسبا لاستهلاك البشر ، أو الحد من الطوابير الطويلة من أجل الحصول عليه. كما أنهم لم يكونوا من دعاة العنف والتخريب كي يعيد على مسامعهم مرارا وتكرارا مقولة أنه لن يسمح بالتخريب وتهديد مؤسسات الدولة.
الذي حموا بأجسادهم المتحف الوطني كانوا من الشبان المتظاهرين ، فيما كان الذين هاجموه ونهبوا وسرقوا هنا وهناك من البلطجية الذين يؤتى بهم غالبا لمواجهة المتظاهرين في مناسبات شتى ، وهم ذاتهم الذين يستخدمهم الحزب الحاكم في الانتخابات. وهؤلاء لا يمارسون التخريب من تلقاء أنفسهم ، بل يُطلب منهم أن يفعلوا ذلك لكي يشوهوا صورة الاحتجاجات السلمية ، ويبرروا تبعا لذلك قسوة الأمن في التعامل معها.
هل كان أعضاء مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين ، والآلاف من عناصر الجماعة والنشطاء الآخرين (الاحتجاجات كانت عامة وشارك فيها الجميع) ، هل كانوا متلبسين بالتخريب حين اعتقلوا ، وأين هو السماح بالاحتجاج السلمي الذي تحدث عنه السيد الرئيس في خطابه؟، هل كان الصحافيون المصريون والأجانب الذي ضُربوا ولوحقوا من دعاة العنف أو التخريب ، وهل كان رجال الشرطة باللباس المدني الذين التقطتهم الكاميرات وهم يضربون الناس بالعصي والهراوات ينفذون التعليمات أم يتصرفون من تلقاء أنفسهم؟،.
في خطابه ، لم يتحدث الرئيس سوى عن الفقر والبطالة والفساد ، فيما وردت عبارة الإصلاح السياسي والاجتماعي مرة واحدة عبر ضمها إلى الإصلاح الاقتصادي. حدث ذلك رغم أن البعد السياسي هو الذي أخرج أولئك الشبان قبل أي شيء. فهذا الجيل المثقف الذي قرأ ويقرأ ويتابع ما يجري في الكون يعرف مثلا أن إمبراطور الحديد والصلب الذي يملك أكثر من ثروات ملايين المصريين ، لن يكون معنيا بمقولة محاربة الفساد ، وأنه لولا الوضع القائم بكل تفاصيله لما كان بوسعه أن يفعل ذلك.
إنهم يعلمون ويدركون أن السياسة هي الأصل ، وإن بلدا يفوز فيه الحزب الحاكم بجميع مقاعد مجلس الشعب والشورى والبلديات لن يكون سوى مرتع للفساد ، أيا يكن الحاكم ، فضلا عن أن يكون قادته من رجال الأعمال ، بل من أكثر رجال الأعمال جشعا في كثير من الأحيان.
إنهم يتوقون إلى الحرية والتعددية وحقوق الإنسان التي يقرأون عنها صباح مساء ، ويعلمون تبعا لذلك أنه من دونها ستبقى دعوات مكافحة الفقر والبطالة والفساد مجرد شعارات سمعوا عنها منذ أن بدأوا يفهمون معنى الكلمات ، لكن الوضع ما لبث يزداد سوءا على سوئه القديم ، لأن الفاسدين لا يشبعون ، بل يواصلون النهب ، فيما يفرخون جيلا جديدا من أمثالهم.
لم يتحدث الرئيس عن الانتخابات التي فاز فيها الحزب الحاكم بكل المقاعد ، ولم يتحدث عن الحرية ، ولم يتحدث عن السبب الذي يدفعه إلى رفض تعيين نائب له منذ ثلاثة عقود ، ولا عن التوريث ولا عن أي شيء يمت إلى السياسة المباشرة بصلة.
أما إقالة الحكومة ، فلم تكن هدف المتظاهرين ، بل تغيير الوضع برمته ، إذ أية حكومة سيفرزها حزب طالما شكل حكومات لم تغير من الواقع القائم شيئا ، فيما يعلم الجميع أن في الحزب رجال أقوى من رئيس الحكومة وأعضائها وأكثر تأثيرا بكثير.
خلاصة القول ، أن متظاهري تونس ومصر والدول الأخرى هم جميعا من ذات اللون التواق إلى الحرية والتعددية والعدالة ، وحين تتوفر هذه سيكون بالإمكان الحديث عن الحرب على الفقر والبطالة والفساد ، أما قبل ذلك فالوعود كلها ستتبخر ولن يزداد الوضع إلا سوءا.
جماهير الأمة عرفت طريقها ، ولن تسمح باستعبادها بعد اليوم حتى لو أطلقوا عليها الرصاص الحي وليس المطاطي أو القنابل المسيلة للدموع فقط ، وقد بدأت المتوالية ولن تتوقف حتى يستعيد الناس حاضرهم ومستقبلهم المسروق من قبل فئات هيمنت على السلطة والثروة ودمرت كل شيء من أجل مصالحها ، ومصالحها فقط.