ارحموا عزيز قوم...المواطن الاردني



المواطن الاردني هادئ وحزين،رجل مواقف، يتحلى بشجاعة الدفاع عن مبادئه،يقاتل ببسالة للذوذ عن افكاره .لم يتصالح مع حكوماته بسبب سياساتها المرتجلة التي كسرت ظهره.لم يتصالح مع ايامه بسبب اثقالها التي هدت اكتافه. مسكون بقلق الحياة و اعبائها .اعتاد ان يتحمّل اخطاء الفاشلين،وخطايا الاخرين،ويشيل عنهم اوزارهم،ويدفع فواتير فسادهم .لكن الجميل فيه اليوم،انه لم يعد جزءاً من ديكور غيره بل اصبح هو ذاته،نسيج وحده. قال بالفم الملآن: "لكم دينكم ولي دين".قالها لاولئك الذين يُفصّلون في كل مناسبة ديناً على مقاسهم،ويسلكون في كل موسم طريقاً خاصاً بهم،وينسجون لكل مرحلة افكاراً تخدم مصالحهم.قالها للذين يبدلون جلودهم كالحرباء اذ ان لكل مناسبة لونها وربطة عنقها وتسريحة شعرها.قالها لانه امتلك كيمياء البوح،وجرأة النقد للخروج من دائرة الوهم،والتحرر من قيد الخوف.
*** هو كنز كرم رغم ضيقه،ونبع عطاء ان احسنت التعامل معه،لكنه مخزنٌ ممتلئٌ بالبارود قابل للانفجار اذا ما داس احدٌ طرفه،وعبوة سريعة الاشتعال اذا ما مسه بسوء احدهم. شيفرته عصية على الفكفكة بفضل التجارب التي عاشها والكوارث التي مرت على راسه. ملامحه مرآة تعكس ارتفاع الاسعار،ونشرات الاخبار،وفضائح الكبار.تجاعيده المحفورة على جبينه،وثيقة ناطقة بالهزائم العربية،والواقع المحلي المازوم. جسده المنهك يحكي حكايا الغذاء الفاسد والقمح المنخور بالسوس،و الاشعاعات المسرطنة،والمتبقيات من المواد المشعة في حليب الامهات،ناهيك عن المياه الملوثة،و الادوبة المزيفة،و الاطعمة المضبوطة من لدن مؤسسة الغذاء والدواء التي تعف عنها الحيوانات.المخجل اكثر التعدي على حرمة جسده المقدس، بخلطة سرية من المانجا، الافوكادو،الجزر الصهيوني المستورد من المستوطنات العبرية من دون علمه، والمخفي اعظم .تلك "الخيرات" التي جاءت بها معاهدة العار وادي عربة،وحملتها حاويات التطبيع بدمغات مزورة،على اكتاف المطبعين المنحطين الذين تراهم في كل وادٍ يهيمون.
*** دوام تكشيرته،صرامة تقاطيعه،نظراته الحادة المتوهجة بالتوتر،بريق عينيه اللامعتين بالقهر، اشارات تدل ان كأسه مترع بالعذاب،فاض بقهر مقيم فاق قدرته على الاحتمال.فيما انفاسه اللاهثة المسكونة بالمرارة توحي بشر مستطير لمن آذاه،وسلبه استقراره العائلي وسِلْمِهِ الاهلي.تقرأ في صفحة وجهه الذابل مشهد جنائزي،تظنه ان عمره الف سنة الا خمسين كسيدنا نوح ـ عليه السلام ـ رغم انه لم يتجاوز الثلاثين.
*** ايامه سريعة عند دفع اجرة الدار،الاسرع منها ساعة الكهرباء ـ فاتورة تنطح فاتورة ـ وما اكثر الفواتير. يمشي هرولة على انغام سمفونية الغلاء،هي ليست رقصة فرح،بل رقصة الم كانه يعاني من ذبحة صدرية.لهذا انطفأت في داخله جمرة الذكرى والذاكرة. دائم اللهاث خلف اللقمة، لذا انحشر من حيث لا يدري في الزاوية الضيقة الحرجة صارخاً:"ربِ لا اريد من هذه الفانية سوى السترة "..!. ربِ لا اسائلك الا خبزي كفاف يومي،بعد ان علقت مرغماً بصنارة الحكومات المفلسة.ربِ ان اجمل ما في الوجود نفس جميلة في وطن جميل،وان ابشع ما في الوجود ان تنقلب الحكومة الى سلطة جباية،يكون فيها المواطن مجرد حصالة لتفريغها عند الحاجة لسد عجوزات الموازنة. من اجل ذلك ابتدعت الحكومات المفلسة شعار"المواطن الحصالة هو الحل" لحل مشكلاتها،انطلاقاً من نظرتها للمواطن انه مخلوق "لبون،حلوب، لاحم" يدر الحليب واللبن و القشطة، لحمه شهي في المحاشي،وطري للشي في الحفلات،و افضل ما يكون للذبح حلالاً في الاضاحي.
*** احلامه الكبيرة تضآءلت،و اصبحت صغيرة صغيرة،ذروتها اشباع معدته الخاوية،بعد ان جرى ترويضه سياسياً،و تدجينه اجتماعياً،وتفريغه سايكولوجياً حتى استوت عنده الاشياء،وتسطحت امانيه،وباتت حزينة اغانيه الجميلة .كل شيء عنده قبض ريح،زوبعة من غبار، بيدر من تبن.حياته اليومية،رحلة عذاب مقيم منذ صرخة الاحتجاج الباكية حين اطل من رحم امه،حتى شهقة الغياب الابدي و اهالة التراب على جسده الشقي.
*** المواطن دائماً في طرف الصورة الحكومية، ان لم يكن خارجها،اما وجوده داخلها ـ احياناً ـ فمن لزوم ما يلزم،لانه لازم اللزوم للجلوس على المدرجات للتصفيق،وملء الشواغر في المقاهي،وزيادة الزحام على الارصفة. الاهم اهميته المهمة جداً لدائرة الضريبة، اطالة طوابير الانتظار، تحرير مخالفات السير،الذهاب الى صناديق الاقتراع لاستكمال ديكور العملية الديمقراطية،الوقوف المذل لساعات طويلة امام السفارات للحصول على تأشيرة سفر للبحث عن الذات.الاحساس بامتهان انسانيته عند مراجعة البنوك لقبض دعم المحروقات.هو ضروري لتشييع جنازات ذوي الحظوة والخطوة. ومطلوب ايضاً لقياس ردات فعله بعد كل قرار خائب .
*** هذا الاغلى ما تملك الدولة .اصبح كومة من عظام،بقايا ركام.تراه يعيش حالة ضنك طاحن بينما اختفت وعود "النخبة الكاذبة" عن وعده بمستقبل واعد،فيما تعشعش داخله حالة رعب على مستقبله،وتستوطن نفسه عزلة مخيفة وغربة قاتلة لا يعرفها الا الله وعلماء النفس وزراء المالية...لا عجب اذاً ان يحمل "المواطن البطل" لقب عضو صامت في نادي النخبة الثرثارة التي لا تنادي بالحرية ولا تعرف الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الا وهي خارج السلطة. ليس من باب الحب انما نكاية بالدولة.
*** خلاصة الخلاصة. نحن نعيش في ظل حكومات مأزومة،برلمانات مهزومة،نخب منحطة خُلقياً و اخلاقياً..مالياً وادارياً..سلوكاً ومسلكاً، احزاب هشة ضعيفة،نقابات محنطة،نفايات انتهت صلاحيتها.باختصار لا احد للمواطن في معركته مع الحياة سوى الواحد الاحد.لا احد ينشله من قرارة بئر النكد،الا من رفع السماء بلا عمد.فاتقوا الله فيه،فقد رايت في هذا الرمضان بام عيني نماذج تُبكي الحجر،وتُدمي الصخر،حتى ان "عزيز قوم ذل" قال لي وفي عينيه المنكسرتين تطوف دموع عصية على السقوط، كاشفاً الجانب الانساني المطمور بعد ان أُغلقت الابواب امامه،و تفاقمت ديونه : انني احسد جرأة اولئك الذين يقفون على الاشارات الضوئية يتكففون الناس لاطعام عوائلهم،لكنه فجاةً فقد تماسكه و لم يتمالك نفسه فتساقطت دموعه العصية حمماً جهنمية على رؤوس الحرامية الفاسدين ،و ادعية حارقة تخترق السموات لان ليس بينها وبين الله حجاب..."ربِ لا تُبقي على الارضِ من الظالمين ديَّارا"....!.
مدونة الكاتب الصحفي بسام الياسين