"فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" أعظم أجر عند الله جرعةِ غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله

اخبار البلد
تقديم الاعلامي بسام العريان
الحمد لله القائم على كل نفسٍ بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، أحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المنزّل عليه {ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا}، أما بعد:

عباد الله، اسمعوا وصية الله عز وجل وهو يقول { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
أيها المسلمون .. دعونا نستذكر بداية موقفاً لأحد الخلفاء الراشدين ولنتأمل يا رعاكم الله فن المصالحة وانتقاء الكلام }فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}..
كان لعبدالله بن الزبير - رضي الله عنه - مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - خليفة المسلمين في دمشق ..
... وفي ذات يوم دخل عمّال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبير ، وقد تكرر منهم ذلك في أيام سابقة ؛ فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق وقد كان بينهما عداوة قائلاً في كتابه : مــــن عبدالله ابن الزبير إلى معاوية ( ابن هند آكلة الأكباد ) أمّا بعد ..
فإنّ عمالك دخلوا إلى مزرعتي ، فمرهم بالخروج منها ، أو فوالذي لا إله إلا هو ليكوننّ لي معك شأن !
فوصلت الرسالة لمعاوية ، وكان من أحلم الناس ، فقرأها ..
ثم قال لإبنه يزيد : ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني ؟
فقال له ابنه يزيد : أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه ..
فقال معاوية : بل خيرٌ من ذلك .. " زكاةً وأقربَ رُحماً " .
فكتب رسالة إلى عبدالله بن الزبير يقول فيها :
من معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبير
( ابن أسماء ذات النطاقين ) أما بعد ..
فوالله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلّمتها إليك ، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك ، فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمّالي إلى عمّالك ..
فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض !
فلمّا قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلّ لحيته بالدموع ، وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه ، وقال له : لا أعدمك الله حُلماً أحلّك في قريش هذا المحل .

.. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}..
أيها المسلمون .. إن هذه الآية من الآيات التي تعتبر من السنن التكوينية.. فنحن نعلم أن الذي أنزل القرآن، هو صاحب المعادلات الكبرى في الوجود: في عالم الفيزياء، والكيمياء، والفلك، والذرة، وما شابه ذلك.. وعندما يعطينا القرآن الكريم قاعدة في مجال التعامل مع الناس، فإن هذه القاعدة لا تتخلف، كعدم تخلف المعادلات الكيميائية في عالم الوجود.. وهذه الآية تتناول مشكلة قائمة، فمَن مِنَّا لا يعيش بعض صور العداوة، أو إختلاف وجهات النظر مع الآخرين؟!.. وما دام هنالك اختلاف، فمعنى ذلك أن الأرضية مهيئة للخلاف، سواء في الوسط العائلي، أو في الوسط الاجتماعي ..

{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. إن هذا التعبير أبلغ مما لو قالت الآية: فإذا الذي عدوك، كأنه لا صلة بينك وبينه إلا هذه الصلة، وهناك بينك بينه سد، هذا السد متمثل في العداوة.. والقرآن الكريم يقول: إذا أردت أن تهدم هذا السد، فعليك بهذا المعول، معول الدفع بالتي هي أحسن ، فإذا بهذا الانسان الذي له عداوة معك كأنه ولي حميم.. فأنت يهمك رضا أخيك، ورضا زوجتك، ورضا حبيبك، ورضا والديك.. وهنالك عداوة غير مبررة، وعداوة غير منطقية.. فتقول هذه الآية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. فالله عزّ وجلّ يتصرف في قلب الطرفين، ويحوّل العداوة إلى محبة، لأن قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن.. إن عداوة عامة الناس، لا تبنى على أسس منطقية، فهي ليست على أساس الدين، ولا هي مواقف لأجل الله عزّ وجلّ.. فإذا تغيرت الذات، تغيرت المواقف.. والذي يغير الذات هو هذا العمل: أي أن تواجه السيئة بالحسنة.
عباد الله ..الله عز وجل يقول { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } بعض الناس يقول في هذا الشأن أسمع الناس يعدُّون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق ؟
النفاق هو إظهار الجميل وإبطان القبيح وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر ، والذي تضمنته الآية إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن .
التودد إلى الناس مطلوب شرعا مستحسن طبعا . قال تعالى { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } وقال تعالى { ادفع بالتي هي أحسن } .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { مداراة الناس صدقة }
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جُرعَةٍ أعظم أجرًا عند الله من جرعةِ غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله".
جاء غلام لأبي ذر رضي الله عنه وقد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم. فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه.
فهيا عباد الله فلنعود أنفسنا كظم الغيظ والتحلي بالحلم عسى أن يملأ الله قلوبنا إيمانًا وحكمة، ويزيدنا يوم القيامة رفعة
فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى : وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .
ويقول الله جل وعلا : ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور:22] .
وهذا أيها المؤمنون عفوٌ في مقابلة الأذى في العِرض وهو من أشدِّ الأذى وأنكاه ، وقد جاء في صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في حقِّ صدِّيق الأمة أبي بكر رضي الله عنه عندما حلف ألَّا ينفق على مسطح ابن أثاثة وكان من قرابته وكان ينفق عليه لفقره وقرابته ولما حصل منه شيء من الخوض في حادثة الإفك حلف أبو بكر ألَّا ينفق عليه ، ولما نزلت هذه الآية الكريمة قال أبو بكر رضي الله عنه : " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " فأرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفقها عليه وقال : " والله لا أنزعها أبدا " .
أيها المؤمنون : من أشد الأذى الأذى من القرابة - زوجةٍ أو ابنٍ أو أخٍ أو نحو ذلك - وكثير من الناس لا يحتمل قلبه ذلك لما يرى له عليهم من حقوق قوبلت بظلم وعدوان وإساءة ، فيرى كثير من الناس أنَّ هذا المقام مقامٌ لا يُحتمل فيه العفو والصفح ، والله جل وعلا يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن:14] .
إن العفو والصفح مقامٌ عظيم ومنزلةٌ رفيعة وهو صفة نبينا صلى الله عليه وسلم وصفة أتباعه بإحسان ؛ جاء في الترمذي وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وقد سُئلت عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا ، وَلَا مُتَفَحِّشًا ، وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» ،
أيها المؤمنون : مقام العفو والصفح في رؤية كثير من الناس ذلٌّ ومهانة ؛ فتقول له نفسه الأمارة بالسوء : كيف تعفو وكيف تصفح وقد فعل بك ما فعل وأساء إليك بكيت وكيت ، أين العز ! أين القوة ! أين الشهامة ! فتحدِّثه نفسه أن العزة في الانتقام . ولا والله العز إنما هو في العفو والصفح لا كما يظنه كثير من الناس ، وفي هذا جاء الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا)) أي أن العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ قدرٍ في الدنيا والآخرة .

إخوتي في الله ، مَن يُحسن الكلام كثيرٌ، ومَن يعمل بما يقول قليلٌ، فلنكنْ مِن تلك القِلَّة؛ فهي المؤثِّرة، فما وُجِّه الناسُ بأفضل من العمل، فيرون القدوة الحَسَنة أمامهم، فيقتدون بها، ولو لم يتكلمْ، فعلى أهْلِ القُدْوة أن يتفطَّنوا لذلك، عليك أخي طالب العِلم، الداعية، الحافظ، المعلِّم، الأب، الأخ الأكبر، علينا جميعًا أنْ نعملَ بما نقول؛ حتى يكونَ لتربيتِنا وتوجيهنا أثرٌ، ويُنْتَفَع بنا.
أختمُ كلامي بمقولةٍ للخليفة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد حيث قال: "نحن إلى أنْ نوعَظَ بالأعمال أحوجُ منَّا إلى أن نوعَظَ بالأقوال"، وصَدَق.
وهكذا هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان خُلُقه القرآن.
صلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وثلَّث بكم أيها الموحدون من جنه وإنسه، فقال قولا كريماً: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وأرض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن آل البيت الطيبين الطاهرين، وعن سائر الصحابة المكرمين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين وأعز الإسلام والمسلمين..
اللهم أغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولاصحابنا، ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، يا بديع الأرض والسماوات.

المصدر :
الخريجة وجدان جبران يوسف الأمريكاني خريجة جامعة العلوم التطبيقية بعمان قسم الشريعة مشروع بحث خطبة الجمعه