عبدالباري هل باع "القدس"


 
لم يشتر أحد حتى الآن كل الروايات والسيناريوهات التي قيلت وكتبت حول استقالة أشهر رئيس تحرير لصَحيفة عربية صَدرَت في العقودِ الثلاثةِ الماضيةِ عبدالباري عطوان من صحيفة "القدس العربي"، ولا يزال اللغز يحير الجميع.
بين عبدالباري و"القدس العربي" علاقة لا يفهمها إلا الذين يعرفون عبدالباري عن قرب، وأنا التقيته في عدة مناسبات وعشيات، لكني أعرف حقيقته أكثر من زميله الأقرب إلى شخصه وروحه وإلى الكاريزما الخاصة به زميلنا المحترف بسام بدارين مدير مكتب "القدس العربي" في الأردن.
"القدس العربي" بالنسبة لعبدالباري الصّحافي الأكثر شُهرةً في العالم العربي، هي جزء من عائلته الصغيرة، ولم يكن موفقًا أبو خالد عندما قال في كلمته الوداعية إنه سوف يعود لأسرته العائلية لكي يتعرف عليهم أكثر بسبب أن "القدس العربي" اخذته منهم، فهي كانت لا تختلف عن خالد وكريم، فما الذي تغير إذا لكي يفاجئ عبدالباري عطوان قراءه ومحبيه ومعجبيه وحتى أعداءه بهذا القرار الغريب.
الذي يعرف عبدالباري يعلم جيدًا انه ليس ماديًا، وليس من الأشخاص الذين تستهويهم البهرجة وحياة رجال المال، فهو لا يزال يحمل في ذاكرته الواسعة مئات القصص والحكايا للفقر والعوز والعمل البدائي في بداية حياته، التي كانت عمّان الأكثر احتضانًا لهذه الذكريات، التي لا ينساها عبدالباري ودائم الحديث عنها، من عمله سائقًا في أمانة عمّان على تراكتور لرش المبيدات، إلى عمله في مصنع ورق في الزرقاء، إلى قلايات البندورة التي يتحدث عنها بعشق وكأنه يتغزل في محبوبته.
"القدس العربي" ومثلما أطلق عليها الكاتب الصديق حلمي الأسمر "وقف إسلامي فلسطيني" لا يمكن التنازل عنها أو بيعها، أثتبت أنها صحيفة عروبية الهُوية، فلسطينية الانتماء، مهنية في طريقة كسب الجمهور، المؤيد لخطها المهني والمعارض، وما من صحيفة واجهت مؤيدين ومعارضين مثلما واجهت "القدس العربي" إلا أن الأكثرية في النهاية تنحاز إلى خطها السياسي الذي اشتغل عليه جيّدًا عبدالباري صحافيًا وفضائيًا وكتابيًا، فقد أنجز أهم الكتب عن تنظيم القاعدة، وأجرى حوارات نوعية مع أسامة بن لادن، كما تستضيفه أهم المحطات الفضائية والتلفزيونية كخبير محترف في الشؤون العربية والفلسطينية وتنظيم القاعدة.
لا يمكن لأي مشترٍ جديدٍ لصحيفة "القدس العربي" أن يتوقع استمرار المشروع من دون عبدالباري، وهذا ليس تقليلا من كفاءة وحرفية الزملاء الآخرين في "القدس العربي" بدءًا من رئيسة التحرير بالوكالة سناء العالول والصديق الشاعر المبدع أمجد ناصر، وأفضل الكتّاب في القضية السورية الصديق صبحي حديدي وكوكبة المراسلين المبدعين بسام بدارين ومحمود معروف وحسنين كروم وسلسلة ليست طويلة من المبدعين (18 عاملا في مقر الصحيفة في لندن و10 مراسلين من الخارج) إضافة إلى نخبة من الكتّاب المتميزين.
مُحزنٌ جدًا في هذا الوقت أن نخسر صحيفة بوزن "القدس العربي" ونحن نحتاج إلى أصوات تصل بسهولة إلى عمق العالم وتحفر فيه حقوقنا وقضايانا الوطنية، بعد صدور استمر 22 عامًا، ومؤلم جدًا حبل الإشاعات والمخططات التي استمعنا لها حول التخلص من مشروع "القدس العربي"، ومصيبة أكثر أن تفكر دول بإعدام مشروع إعلامي لا يتناسب مع خطها السياسي.
إذا كانت قضية "القدس العربي" مالية، وأنا اشك في ذلك، فإن على السلطة الفلسطينية أولا ورأسالمال الفلسطيني ثانيًا والعربي ثالثًا أن يبادروا إلى إنقاذ "القدس العربي"، لأن خسارة أي مشروع إعلامي عربي كارثة علينا في زمن الحرّيات والتغيير الذي أصاب بنيان مجتمعنا العربي.
الاربعاء المقبل، يزور عبدالباري عطوان عمّان، ومنه فقط قد نسمع أصل الحكاية، وقصة البيع، والاستقالة التي يعتبرها "مرحلة انتقالية"، لكني غير متفائل أن نصل يوما إلى الحقيقة واللغز في قضية "القدس العربي".

بقلم:  أسامة الرنتيسي