حراك القصر والشارع

اخبار البلد
د. مراد الكلالدة
 
إن الدول متغيرة حدودها، والسلطة متداولة مقاليدها بفعل حراك البشر الذين لا يدخروا جهداً للوصول إلى السلطة والتمتع بالجبروت الذي يمكنهم من ممارسة شتى أنواع المتعة الجسدية. وتحصّن السُلطة نفسها بمجموعة من الموالين لانها الضمانة لإستمرار سيطرتها على مقاليد الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وعلى الجيش والأمن العام وعلى الطير الطائر. ولو قدُر لأي حاكم في الدنيا أن يختار الطريقة الأحب لحكمه لاختار بالتأكيد أن يكون القائد الواحد الأحد وأن يُسبّح الناس بحِمده بُكرة وعشية كالفرعون. ولكّن البشر قد دفعوا أغلى الأثمان للتحرر من العبودية والتي أصبحت من الماضي، وللخلاص من الإقطاع والنازية والفاشية ونظام الفصل العنصري لأنها تمجد الفرد وتجعل من الناس أتباع لا شركاء.

وكلما زادت الهُوّة بين الحاكم والمحكوم، زادت شِدة الصراع بينهما، ولهذا ترى الأنظمة أصبحت تقبل بأن يكون الشعب جزء من مصدر السلطات لأن الحراك بات يفضي إلى مزيد من التمثيل الشعبي عن طريق الانتخابات التي لا ينفك أحدهم من محاولات تزويرها بالقانون أو بدونه.

لقد عَرف "الشعب" أن لا سبيل لإنتزاع حقوقه من سلة الحاكم إلا بالحراك وتخيلوا معي كيف كانت ستكون الأمور عندنا لو أن الشعب لم يخرج إلى الساحات والميادين للمطالبة بالإصلاح السياسي وإسترداد الأموال المنهوبة والأراضي المسروقة والشركات المخصخصة لدرجة أن وصلت بأصحاب السلطة عرض مدينة الحسين للشباب للبيع بعد أن تمكنوا من تمرير صفقات بيع الميناء والمطارات وأراضي القوات المسلحة. وهل يعتقد الشعب بأن مثل هؤلاء كانوا سيتوقفون عند حد معين، الجواب هو بالتأكيد لا ...
 
لذا فلا بد من الحراك الذي يَحمي ما بنيناه ويستعيد الجزء المسلوب منه من براثن اللصوص ويفرض الإصلاح الدستوري.

إن الحراك عملية ديناميكية يتم فيها تبديل الأماكن والأدوار وتشمل جميع أطراف المجتمع وقد يستغله البعض لتبييض صفحته قبل فوات الأوان فيصبح الراعي للإصلاح، ويستغله البعض الاخر لركوب السلطة على ظهر الأمواج البشرية الطامحة لتحسين أوضاعها المعاشية. إن على الشعب الأردني الذي بات يدرك غاية الأطراف المختلفة للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها أن لا ينأى بنفسه عن التجاذبات التي أصبحت واضحة، فالتيار الديني يستخدم الحراك الشعبي للوصول إلى رئاسة الوزراء ورئاسة النواب ورئاسة الجيش في يوم من الأيام. وحتى إن حدث ذلك فإننا سنكرر تجربة الحكم الشمولي وسيتخلى التيار المُنتصر عن الحراك الشعبي ويتحيز لإنصاره ولنا فيما يحدث في مصر دروس وعبرة.

لقد إنتبه العلمانيون إلى مَطامع التيار الديني في إستخدام الحراك للوصول إلى السلطة الذين سيشنّعون بهم بحجة أنهم كفرة وزناديق يمارسون الفحشاء بالغناء والعهر بالرقص ويتوجب رجمهم. وقد وصل التطرف ببعض حراكيّ الطفيلة وغيرها بالإحتفال بمقتل العالم الإسلامي السوري "البوطي" في مسجد بدمشق وروجوا الى صور أشلاء المُصلين كإنتصار جهادي، فما بالك هم بنا فاعلون؟

لقد حذى هذا الشعور بالفريق العلماني من الحراك الشعبي للإبتعاد عن حليف الأمس لإدراكة بأنه سيؤكل إذا ما أُكل النظام ولهذا نجدهم قد ألتقطوا الأنفاس وتوقفوا مطولاً للتفكير. وقد أدرك الفريق الحاكم هذا التناقض وبات يقلل من التنازلات التي يقدمها على طريق الإصلاح ويتمادى في سياسة الهجوم على جيب المواطن إما لسد نفقات البذخ والمجون الكثيرة أو لسداد فوائد الدين الذي تجاوز العشرين مليار دينار جراء نهج اللصوصية والفشل الحكومات المتعاقبة في إحداث التنمية.

وهنا وقف أنقياء الحراك الأردني مراقبين إلى ما ستؤول اليه الأمور في المنطقة، فإن عاد التيار الديني في مصر إلى سدة الحكم، وهذا مستبعد، فإن مسألة تغيير النظام الأردني مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، وسيكون العلمانيون الضحية التالية. وإن إستطاع النظامين السوري والمصري إبقاء الأخوان المسلمين بعيداً عن السلطة، فإن الأوضاع ستبقى كما هي لسنوات على الأقل إن لم تزداد سوءاً لإحتمال إنتقال الطرف الخاسر إلى الصراع الجهادي المسلح طويل الأمد.

إن الفرز العقائدي (ديني- علماني) أصبح أشد وضوحاً من الفرز الطبقي (أغنياء- فقراء) مما سينتج إعادة تموضع للحراك لضمان أوسع تحالف ممكن لإقصاء الآخر عن السلطة. إن هذا التموضع لن يقبل التخلي عن الفرز الطبقي ولكنه سيؤجله إلى حين، كما هو الحال في التحالف الحاصل في حركة تمرد بمصر. وسيشمل هذا التموضع الحراك الأردني في الشارع بشقيه الديني والعلماني ولن يبقى أتباع القصر الملكي بعيدين عن هذا الفرز حيث سينشط الإتجاه المنادي بالملكية الدستورية لإعادة بعض السلطات المَلكية إلى الشعب على غرار النظم الملكية في بريطانيا وإسبانيا، وإن حدث هذا، فسيكون الأردن قد مسك طوق النجاة ولا يبقى إلا أن يسبح بإتجاه شاطيء الأمآن.

وفي الختام أجتهد بالقول بأن المَخرج الوحيد من حالة اللاسلم والاحرب الأردنية هذه هو في تنازل كل طرف من الأطراف الثلاثة: الملكية والدينية والعلمانية للسير نحو الدولة المدنية الملكية الدستورية، وأن نتعلم من جيراننا بأن الأردن لا يحتمل الصدام بين المكونات الثلاثة هذه. ويخطيء من يظن أن مجاورتنا لإسرائيل ستكون الدرع الواقعي من رصاص الإقليمية والطائفية والعشائرية، لأنها، أي إسرائيل قد حجزت مقعد المتفرج على فريقين من العرب أحدهما منشغل بالنقاش حول جنس الملائكة والثاني منشغل بتقطيع جسد الآخر.