رواية الصَّمَرْدح





قال الصَّمَرْدَحُ بْنُ جَعَّارْ- في ذكر أحداث سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف- : ثم إن يهود اغتاظت أشد الغيظ، عندما برز في الأعراب منصب يسمونه (محبوب العرب) وهو تصحيف لقب أطلقه الإفرنج على أصنام عبدوها،فحرفه العرب وأطلقوه بلغة الإفرنج،ومعناه(طاغوت العرب) وفي رواية(صنم العرب) وإنما حرفوا معناه، فقالوا: (محبوب العرب) وقالوا هذه طريقة جديدة لحرب يهود، فمن اخترناه "خليفة على الغناء" بهذا اللقب،فإنه سيكون له شأن، في قهر يهود، وتكون سُنَّةً من بعدنا،لمن خَلْفَنا من ذَرارينا، فنحارب اليهود، بلا مؤونة،ولا قَتْلْ، فَعِدَّةُ الحرب المزمار والعود والطَّبْلْ، فإنما هذا الزمان زمان الفنون، فمن تفنن، فقد تَمَكَّنْ.


فقالت اليهود: قد مكثنا دهراً، في أمانْ،ولم يَصْدُرْ عن الأعراب، شيءٌ يستفزنا، فنرى أنه مما، يستحق النظر،وتناوشتنا وإياهم حروب، كان لنا فيها الظَّفَرْ،فما نخشى منهم صولة،ً تُلْجِئُنا ألى خَوْفْ،ولا رأينا من فِعْلِهِمْ، ما نحسب أن يلحقنا منه حَيْفْ، حتى ظهر فيهم هذا "المُسَمَّى"فجمع شَتاتَهُمْ، من كل مَرْمَى،وثارت له نخوتهم، كما تثور في العليل الحُمَّى،فما احتسبنا لهذا فيما نَحْتَسِبْ،ولنا فيه خشية من سوء المُنْقَلَبْ.

قال الصَّمَرْدَحْ :ثم إن يهود تواطئوا على أن يرسلوا منهم وفدا إلى عباس وكان أميرا على فلسطين،ولطالما أغاروا عليه، من قبل فاستباحوا أرضه،وضموا إليهم مدن الساحل، ثم اقتطعوا بيت المقدس فأقاموا فيها،واستولوا على أوقافها، وأخرجوا المسلمين والنصارى منها، ثم دنسوا المسجد الأقصى، فاستابحوه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه،ثم نقبوا الأرض من تحته،فحفروا فيها أنفاقا،رجاء أن ينهدم، فيقولون قد انهار من تلقاء نفسه، وكانت العرب يومئذ، أعرابا في دويلات، كلما هَبَّ من يستنهض همتهم،ويذكرهم بما آلت إليه حالهم، قاموا فاجتمعوا، فأكلوا وشربوا، وخطب كل أمير منهم خطبة، تنخلع لها قلوب يهود،حتى إذا انقضت مدة اجتماعهم،تفرقوا ونكص كل إلى إمارته وقال قد أعطيت ما وسعني من وعود،وقلت قولا لم يقله أحد قبلي في اليهود ،وأنكرت عليهم صنيعهم، في أهل فلسطين، ولئن اجتمعنا كرة أخرى، لأقولن فيهم قولا جديدا،ولترين يهود وأحلافها ما نقول وما نعيد.

ثم إن عباس سالمهم على أن يتركوه فيما فرضوا له من الأرض،وأقام بينهم وبينه جدارا كسد مأرب،فقامت عصابة من أهل الشغب فرفضوا صلحه،وقالوا لن نصالح حتى تعود الينا أرضنا،ومساجدنا ويخرج اليهود من ديارنا، فقاتلوا ولم يقبلوا صلح عباس، فَعَنَّفَهُمْ وَصَغَّرَ جِهادَهُمْ، وهزئ من بأسهم،وضحك من عددهم وَعُدَّتِهِمْ، فعادوا إلى قوله،ودخلوا في السلم، وقالوا: لا نعقد صلحا فاجعلها هدنة، فإننا لا نأمن مكر يهود،فقال: لكم ذلك.

وفشى فيهم السلم،واستكانوا للدَّعَةِ، وتخلوا عن القتال، وقالوا لا طاقة لنا بيهود وأحلافهم من الروم والأعراب،حتى ظهر فيهم غلام يسمى (محمد بن عساف).

وكان العرب قد جمعوا أجناد الطرب،فخرج الرجال والنساء والشيوخ والغلمان ،وهب الغواني والقيان ، وَهُمْ من كل حدب ينسلون، ليختاروا لهم خليفة على الغناء.

وسار الناس، بعشرات الألاف، إلى لبنان، واجتمع هناك أهل العقد والحَلْ ،من المطربين، وشيوخ النغم، وأساطين الرقص،وكبراء الطبل.


وكان اجتماعا عظيما، لم يَرَ الناس مِثلًهُ منذ أيام صلاح الدين، فهتف الناس هتافا واحدا، وأطلقوا صيحة واحدة،فارتجت يهود وأرجفوا فيما بينهم وأيقنوا الهزيمة،وقالوا: ويل للعرب فرقناهم بالحرب، فاجتمعوا على النغم.

وعباس قد انتبذ ناحية، في صومعة له، قد مرغ وجهه، ولبس مُروطاً من صوف خَشِن،ٍ ويرفع إصبعه إلى السماء، ويبكي حتى اخضلت لحيته، يرجو النصر على يهود،إن كان الخليفة المختار، على الغناء من أهل فلسطين.

فاجمع الناس قولا واحدا على (محمد بن عساف)خليفة على الغناء.

فارتجت فلسطين،وسائر بلاد العرب، وخرج الناس إلى الطرقات واختلط الرجال بالنساء، والجواري بالغلمان،وامتلأت بهم الساحات والقيعان.

وتزلزل اليهود، وضاقت بهم الأرض وتفرقوا من ليلتهم بعد أن أزمعوا الذهاب إلى عباس موادعين ومصالحين.

ثم أَشْخَصوا منهم، وفدا إليه من كبرائهم،فلما قدم الوفد على عباس، أدار لهم ظهره،وأمر ساقِيَهُ بأن لا يجعل بين أيديهم القهوة، خشيةً من تعنتهم في شربها، فيأخذون عندئذ،ما يريدون بسيف الحياء.

فجلس اليهود، كأن على رؤوسهم الطير، ينظر بعضهم إلى بعض،ٍ تزوغ أعينهم، وترتجف شفاههم، فتغامزوا على رجل منهم ليبتدر القول، فقام أَسَنُّهُمْ، فقال: يا أبا مازن، ولم يكونوا يكنونه من قبل، فلما سمع عباس بكنيته، انتفش في مكانه وقال: هات ما عندكم: فقال: يا أبا مازن، إن بيننا عهدا ولنا فيكم ذمة، وإنا لنرجوا أن تحفظوها فينا، وقد كان بيننا وبينكم عهود من قبل هذا،فاستقمنا عليها، وها انتم اليوم قد غيرتم خطتكم، وبدلتم طريقتكم، فاستبدلتم السيف بالكمان، والرمح بالطبل،ووتر القوس بوتر العود، وقد اجتمعتم على ذلك،أنتم وإخوانكم من سائر العرب، ولم يخالف منكم أحد،ثم كان خليفتكم من فلسطين، وإنما نخشى أن تقولوا، قد تعاهدنا على ترك السيف، والرمح والقوس، وليس بيننا على ما استحدثنا في أمرنا من عهد بيننا وبينكم، فتغلبوننا بالنغم، وتظهروا مظالمكم بالشجن، فتغلبوننا على أمرنا، فلو جددنا العهد وزدنا في المدة.،

فقال عباس: هل أنهيت قولك يا أخا يهود: قال نعم: قال أما ما بيننا من العهد، على ترك القتال بيننا وبينكم، فلا نخون عهودكم ولا نحاربكم، وننبذ ونحارب من يحاربكم، وأما ما ذكرته من أمر النغم والعود والرقص، فلا والله ما نطيعكم فيه،وليس بيننا وبينكم ميثاق عليه،والجواب عندي ما ترون وتسمعون، فخرج اليهود يتهامسون، وقد تغيرت وجوههم، ولم يتبعهم عباس مودعا كما كانوا يَأْلَفُونْ.

ولما قدم محمد ابن عساف في جنده، خرج إليه جيش من الفتيان والفتيات،والنساء والرجال في نحو من أربعين ألفا يحملون الرايات، فرحبوا به وأجلسوه منهم مجلس الحظوة والمكان العلي، وتحلقوا حوله، وبايعوه على أن يخوض بهم البر والبحر لا ينكص منهم رجل ولا امرأة،ولا يستنكف عن نصرته وحفظ أغانيه عاقل ولا جاهل.

وكان ابن عساف، قد"سجد شكرا"وحوله الغواني كاسيات ٍعارياتٍ، يُقَبِّلْنَهُ بجنون، فكان أول من "سجد شكرا على معصية ومجون".