الاخوان المسلمون.. في ضرورة المراجعة الشاملة
لسنا من المبتهجين او الشامتين بنكبة الاخوان المسلمين، فالتشفي والشماتة رذيلة ونذالة وانفعال سوقي وغير سياسي ولا يليق بكبرياء ابناء التيار القومي والعروبي.. ولكن على نفسها جنت جماعات الاخوان في مصر وباقي اقطار الوطن العربي، وبفعل اياديها وصلت الى الخيار صفر وهوت الى درك السقوط والافلاس، بعد عام واحد فقط من الجلوس على سدة الحكم المصري.
فشلت هذه الجماعة في مزاولة الحكم، وسبق ان رسبت ايضاً في امتحان المعارضة، وثبت للقاصي والداني انها ليست سوى قوة تأزيم وتقسيم لا توحيد وتغيير، وفصيل دروشة غيبية وعدمية بلا آفاق عقلية، وسحابة معتمة من شأنها تحويل الآمال الى اوهام والاحلام الى كوابيس.
لقد ثبت بملموس التجربة المصرية وفي اختبار الواقع العملي، ان هذه الجماعة لا تملك برنامجاً او مشروعاً او تصوراً للحكم او للمعارضة، رغم ما تنطوي عليه من استئثار واستكبار واستعلاء وادعاء بالحكمة والحصافة والشطارة وبُعد النظر وقوة الشعبية والتنظيم والتأثير.
باسم الدين وتحت عناوينه تمارس السياسة، ولكن بغير مفرداتها ومن خارج شروطها.. وباسم الدين وتحت عناوينه تلغي الوطنية والقومية وظرف الزمان والمكان، وباسم الدين وتحت عناوينه تقترف ما طاب لها من صنوف الانانية والبراغماتية والتذبذب والتقلب والانتقال السريع من حال الى حال، فتعمد الى موادعة امريكا التي طالما لعنتها، ومهادنة اسرائيل التي دأبت على دمغها بدولة القردة والخنازير، والتنكر لاصدقائها وحلفائها ورفاق دربها فور وصولها الى مركز قوة، شأن ما فعلت مع الاحزاب والقوى الوطنية والقومية واليسارية في الاردن.. ولعل هذه قصة تستحق ان تُروى.
فقبل نيف وعقدين من الزمان، ولدى انهيار الاتحاد السوفياتي وغياب الحرب الباردة واستغناء المعسكر الغربي عن خدمات الاخوان المسلمين كافة، سارعت جماعتهم في الاردن الى لبس لبوس المعارضة، وفتح باب الحوار مع القوى والتيارات الوطنية والقومية، توطئة للدخول في جبهة سياسية عريضة للمعارضة استلزمها ابرام معاهدة وادي عربة المشؤومة عام 1994، وقبلها عقد اتفاقية اوسلو المرذولة عام 1993، وقبلها شن الحرب الكونية القذرة على العراق عام 1991.
ورغم تبعية الاخوان المعروفة لنظام الحكم الاردني، ورغم مواقفهم المناوئة تاريخياً للقوى الوطنية والقومية وصراعاتهم المزمنة معها، الا ان هذه القوى والاحزاب لم تتردد في مصافحة اليد الاخوانية الممدودة اليها بالتلاقي والتوافق والتحالف، والتطلع الى الغد، والتحرر من ادران الماضي ورواسبه.
وهكذا قامت لجنة التنسيق العليا لاحزاب المعارضة الاردنية، ونهضت باعباء ومهمات جليلة وثقيلة لما يقارب العشرين عاماً لم تخل من خلاف هنا وتنافس هناك، ولكن ضمن اطار هذه اللجنة، وعلى ارضية الثقة والمودة والتعددية في الرؤى والاجتهادات.
انذاك فتحنا صفحات 'المجد' الناصرية امام الاقلام الاخوانية، وكانت صفحتها الاخيرة تضم مقالين اسبوعيين، احدهما للقومي المرحوم بهجت ابو غربية، والثاني للاخواني الدكتور همام سعيد، ناهيك عن مقالات وكتابات عديدة ومديدة للمرحوم الدكتور كمال رشيد، وحمزة منصور، وزكي بني ارشيد، وياسر الزعاترة، وابراهيم غوشة وغيرهم.
انذاك ايضاً جاءني الدكتور يعقوب زيادين، امين عام الحزب الشيوعي غاضباً مما اسماه 'التكتل الثلاثي' المستفحل داخل لجنة التنسيق والذي يضم حمزة منصور، امين عام جبهة العمل الاسلامي، وعزمي الخواجا، امين عام حزب الوحدة الشعبية، والمرحوم سالم النحاس، امين عام حزب حشد، وهدد 'ابو خليل' بالانسحاب من هذه اللجنة في حال استمرار وجود هذا التكتل الذي يعتبره موجهاً بالدرجة الاساس للحزب الشيوعي.
يومها - يعلم الله - بذلت اقصى الجهود لاقناع 'ابو خليل' بالعدول عن هذا القرار، حرصاً على لحمة التحالف وكيان لجنة التنسيق، وقلت له فيما قلت لاكثر من ساعتين : 'يكفي هذه اللجنة فخراً وشرفاً، انها قد ضمت لاول مرة في تاريخ الاردن كلاً من القومي والشيوعي والاخواني تحت سقف واحد وضمن برنامج عمل مشترك'.
فجأة، وبمجرد ان هبت نسائم - او سخائم - ما يعرف بالربيع العربي التي صبت في طواحين الاسلاميين عموماً، وحملت الاخوان الى مقدمة الصفوف وكراسي الحكم، ركل الاخوان لجنة التنسيق باقدامهم، وخرجوا منها وعليها، وصعّروا خدودهم واداروا ظهورهم لباقي اصدقائهم وحلفائهم ونظرائهم فيها.. متوهمين ان موسم الغنائم قد ازف، ومندفعين، بتأثير انانية مفرطة، للاستئثار به وحدهم دون غيرهم، ومتناسين ان الايام دول وان الدهر دولاب قلاب لا يستقر على حال.
هذه - باختصار شديد - حكايتنا معهم في الاردن، اما حكاية اخوانهم في سوريا فهي اشد غرابة واكثر عجباً، ذلك لانهم كانوا قد كلفونا مع غيرنا بالتوسط مراراً لدى النظام السوري لاصلاح ذات البين، وفتح صفحة جديدة، واهالة التراب على ما مضى من صراع وعداء.. ورغم ان الرئيس بشار الاسد قد استجاب بدرجة كبيرة لوساطة الاخ خالد مشعل، زعيم حركة حماس ايام كان محفوفاً بعناية الشام، الا ان امور اخوان سوريا قد انقلبت رأساً على عقب بمجرد هبوب سخائم الربيع العربي، حيث لحسوا ما سبق ان قدموا من وعود وتعهدات وعبارات معسولة، وامتشقوا السلاح ورفضوا الحوار لغايات التغيير والاصلاح، والتحقوا بركب حمد القطري واردوغان العثماني وبندر السعودي على حساب امن سوريا ووحدتها واستقرارها، بل طالبوا امريكا واوروبا وحلف الناتو بضرب سوريا اسوة بما فعلوه في ليبيا !!!!
خلال عامين فقط فضحت جماعات الاخوان حقيقتها، وعرّت دخيلتها، وبرهنت على انها ليست قوة رجعية فقط، بل وانتهازية ايضاً.. فهي بلا مواقف ثابتة، او مبادئ راسخة، او قناعات مستقرة، او ثقافة واضحة ومحددة، وها هي تحصد اليوم في مصر، ومن بعدها الوطن العربي، ثمار ما زرعت، وتدفع ثمن ما اقترفت اياديها، وتبوء بغضب ومقت من الشعب العربي كله، وفي مقدمته الشعب المصري الذي خرج عن بكرة ابيه الى الساحات والميادين العامة، يوم 30 حزيران الماضي، مطالباً باسقاط حكم الاخوان، ورحيل الرئيس مرسي العياط.
قطعاً لسنا سعداء بما آل اليه الحال الاخواني في مصر وغيرها، فهم في واقع الامر قوة شعبية منظمة كان يمكن - وما زال ممكناً - ان تشكل اضافة نوعية للامة العربية، وسنداً عضوياً واخوياً لفصائل واحزاب وجبهات النضال الوطني والقومي والتقدمي، ولكن ماذا نقول وقد اختار قادة هذه الجماعة على مدى خمسين عاماً، مناوأة الوعي القومي والوحدة العربية، ومناهضة سائر الحركات الثورية والتحررية والاشتراكية، والافراط في الانانية والمصلحية والغرور والتعالي على الآخرين والمسارعة الى اقصائهم.
قطعاً ايضاً اننا سنقف دوماً مع حق هذه الجماعة في الحرية، لان الحرية كل لا يتجزأ، ومع حقهم في العمل السياسي داخل مصر وفي سائر ارجاء الوطن العربي، وها نحن نعلن بملء الفم وعلى رؤوس الاشهاد، استنكارنا المطلق لتحديد اقامة الرئيس العياط، واعتقال اي من قادة الجماعة وكوادرها وعناصرها في مصر وغيرها، ما داموا يتمسكون بخيار العمل السياسي السلمي، وينبذون لغة الدم ووسائل العنف والارهاب.
وعليه.. ورغم اعتقادنا ان هذه الجماعة المنغلقة على نفسها لن تصغي لنا، او تتقبل النصح والمشورة منا، الا ان ذلك لن يمنعنا من التمني عليها باجراء مراجعة استراتيجية شاملة وشجاعة وصريحة لمجمل تجربتها السياسية ومسيرتها التاريخية، لعلها تتعرف على نقاط القوة والضعف لديها، وعوامل السلب والايجاب في فكرها وفعلها، واسباب فشلها في ميدان الحكم والمعارضة على حد سواء، رغم طول عمرها واتساع رقعة شعبيتها.