من الساعات أنهار ...!

المحروسة التي تحمل بين جنباتها واحدة من أقدم حضارات العالم قبل نحو 5000 عام، كانت الحاضنة لثورة الجياع أول ثورة في تاريخ البشرية، التي قامت ضد ظلم وفساد الملك الفرعوني بيبي الثاني الذي حكم لأكثر من 94 عاماً في القرن 23 قبل الميلاد، ليمتد تاريخها من أيام حكم الفراعنة، إلى حكم فارس فالروم البيزنطيين، ثم الفتح الإسلامي في عهد الفاروق رضي الله عنه، إلى تعاقب خلافات بني أمية وبني العباس، والفاطميين والأيوبيين، والمماليك والعثمانيين، والحملة الفرنسية، فباشاوات الباب العالي العثماني من جديد، من محمد علي باشا إلى السلاطين، ثم الخديويات والملوك الذين حكموا تحت ظل الإستعمار البريطاني للبلاد، فثورة عبدالناصر والضباط الأحرار 1952م، تبعها زمن السادات وإتفاقية كامب ديفيد التي انقسم العرب حولها، مروراً بمبارك الذي خلعه شعبه في ثورة يناير بعد حكم 30 عاماً، وأخيراً مرسي الذي نظمت الثورة عليه بعد عام واحد فقط من حكمه !
منذ إستلام الإخوان المسلمين الحكم في مصر قبل ما يقارب العام ونحن نراقب الأوضاع، ونترقب كغيرنا رؤية نموذجاً جديداً في العالم العربي لحكم إسلامي "غير تقليدي" جاء بالانتخاب، لتقييم أدائه والحكم على مخرجاته، وإن كان للإنصاف لا يمكن الحكم على التجربة من خلال عام واحد، مع وجود ملاحظات ومآخذ على العام الأول، ولذلك كنا وحتى الثلاثين من حزيران مع الرأي القائل بضرورة إعطاء الفرصة لهذا النموذج والحكم عليه بعد مرور الأعوام الأربعة.
أما وقد حدث الإنقسام في الثلاثين من حزيران، وخرجت جموع كبيرة من الشعب تطالب برحيل الرئيس، فقد كان رأينا ضرورة رحيل الرئيس دون تأخير، إقتداء بالحسن رضي الله عنه حقناً للدماء، خصوصاً بعد تدخل الجيش، فكان من الأفضل للرئيس مرسي وجماعته الخروج بهدوء، والعمل على العودة من خلال الإنتخابات بمشروع جديد أكثر قبولاً من الشعب، بدل الإصرار على البقاء والخروج بمظهر الرئيس المعزول من الجيش، وبقاء الجماهير في الشارع كما هو الحال اليوم، لكن الإخوان أخذوا الأمر على مبدأ أن ولاية الأمر لباساً ألبسه الله للرئيس مرسي وليس من حقه خلعه، تماماً كسيدنا عثمان رضي الله عنه عندما كان يطالبه الثائرين التنازل عن الخلافة، في أول ثورة قامت في الإسلام، وكان يقول لهم: (لا أنزع لباساً ألبسني إياه الله عزوجل)، مع ملاحظة أن ذلك كان إنفاذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له، عندما تنبأ له بإستشهاده، وعدم التنازل عن الخلافة عندما تقوم عليه الفتنة.
لذا كان إنحيازنا للرأي القائل بضرورة تنحي الرئيس بهدوء درءاً لمفسدة الانقسام والحرب الأهلية عن الأمة، بدل الإصرار على منفعة الحفاظ على الشرعية، إعمالاً للقاعدة الشرعية درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، إضافة لشعورنا بتقوى الرجل وخلقه الرفيع، وظلم الجماعة له في شغل منصب رئيس الجمهورية، والذي ظهر من خلال أدائه السياسي الذي لم يمتاز بالقوة على الأقل من وجهة نظرنا، فلم يستطع السيطرة على من حاربوه علناً، ولا على من كانوا بجانبه وإنقلبوا عليه في النهاية، أضف لذلك ممارسات بعض أعضاء جماعة الإخوان التي ساهمت في إضعاف صورتهم، كأحدهم الذي رأى في المنام الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم الرئيس مرسي عليه لإمامة الصلاة، وآخر يرى جبريل عليه السلام يصلي مع المصلين في رابعة العدوية، وآخرين يستثيرون أهل الذمة من أهل الكتاب بأنهم كفرة ودمهم مباح، متناسين وجود ما يزيد عن 12 مليون مسيحي في مصر منذ أمد بعيد !!
ولم تخلو الجبهة المعارضة من استفزاز وتشدد أيضاً، فلا يمكن أن يكون من خرج ليرفع صورة مبارك، أو يهتف شبيحة للأبد لأجل عيون الأسد في ميدان التحرير يمثل الشعب المصري الذي خرج ثائراً لكرامته !!
ولا هؤلاء المجرمين القتلة الذين أراقوا دماء عشرات المصلين أمام الحرس الجمهوري صبيحة هذا اليوم، أو ذلك اللواء الذي خرج على الهواء ليذكر بأن عمر صلى الله عليه وسلم ألغى الحدود في عام الرمادة، ولا ندري متى كان عمر نبياً يا سيادة اللواء، والأدهى أن يطالب اللواء بحظر التجول في الليل في رمضان، وإغلاق المساجد ومنع إقامة صلاة الفجر فيها نهائياً درءاً لخطر الإخوان !!!
بالمحصلة المغالاة مرفوضة من الطرفين، ولا يمكن أن تمثل الشعب المصري المتسامح، وما نتمناه هو أن لا يكون مرور الأيام فرصة لعلو أصوات التشدد في مصر من جميع الأطراف، فلا أحد يتمنى عشرية سوداء في مصر، كتلك التي رأيناها في الجزائر بداية التسعينات، وذهب ضحيتها ما يقارب من 200000 ضحية، بعد إلغاء النظام الحاكم فوز الإسلاميين في الإنتخابات.
وأكثر ما يشجع المتشددين على ذلك هو الإجراءات التعسفية التي رافقت عزل الرئيس مرسي، من تكميم أفواه جميع القنوات الإسلامية، والقبض على قيادات الإخوان وشبابهم، حتى أن أحد الإخوة المصريين المنتمين لإحدى القرى من مؤيدي الرئيس مرسي، قال لنا أن المشكلة ليست في عزل الجيش للرئيس، وإنما في الإجراءات التي رافقت ذلك، حتى أن 10 من شباب قريته تم إعتقالهم فقط لأنهم مؤيدين للرئيس، مما أوصل الشباب "على حد قوله" لقناعة أن زمن الإضطهاد عاد بصورة أسوأ، وأنهم ميتون سواء خارج السجن أو داخله، فليموتوا بكرامتهم خارج السجن أفضل لهم ..!
وعلينا ألا نستغرب الفوضى في مصر، فمعظم الثورات تبعتها سنوات من الفوضى وعدم الإستقرار، ومنها مالم تحقق شيئاً على المدى القريب، كالثورة الفرنسية التي أسقطت النظام الملكي 1789م، وبقيت في قتل وحروب 15 عاماً، راح ضحية محاكم الثورة فيها أكثر من 20000، حتى أن نابليون ضرب المدافعين عن الملكية يوماً بالمدافع موقعاً بينهم أكثر من 1400 قتيل، فماذا كانت النتيجة؟
تعزيز سلطة الحاكم الفرد نابليون بونابرت، الذي عاد وأعلن نفسه إمبراطوراً على فرنسا في 1804م، ثم عودة الملكية في 1814م، وكأنك يا زيد ما غزيت !!
وإن كان لا أحد يتمنى لأحبابنا أهل مصر الدخول في مثل هذه الفوضى، بل ونتأسف كثيراً على تشرذم أحوال الأمة، ورضوخها لمخططات بني صهيون المدمرة لكل جميل فيها، ليس قوة فيهم وإنما ضعفاً وخنوعاً فينا للأسف، نحن من نملك مفتاح عزتنا الذي ألقينا به بعيداً عنا ليلقفه أعداء الأمة، ويفتحوا به أبواب عزتهم، وذل وخنوع أمتنا، إبتداء من القضاء على فكرة الخلافة الإسلامية، مروراً بالقضاء على فكرة أمة عربية واحدة وتقسيم الوطن العربي، ومن ثم تقسيم المقسم لينام الرابضين على صدرونا من المحتلين الصهاينة في فلسطين بسلام هانئين، دون أن يرفع مسلم ولا عربي رأسه !
وها نحن نرى أخبار سوريا كما خطط لها، بعيداً عن تسليط الأضواء عليها ومن قبلها العراق، ومن قبلهما أخبار فلسطين التي أصبحت ما بين تلولحي يا دالية، وجواز السفر الدبلوماسي للفنان راغب علامة، وحفلات الشاب محمد عساف في رام الله، وأخبار معبر رفح على استحياء، أما سيرة المناضلين عزالدين القسام وخليل الوزير، وصلاح خلف وأحمد ياسين، ويحيى عياش على سبيل المثال فصارت كطلاسم العصر الحجري بالنسبة للجيل الجديد !!
جل ما نتمناه مع حلول شهر رمضان المبارك، هو أن يعمل أهل مصر على حقن الدماء وإعادة تطبيق الآية 99 من سورة يوسف: (وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، والتي تعبر عما يتمناه للمحروسة كل مصري أومحب لمصر وأهلها في هذا العالم.
ومن المهم أن نذكر أنفسنا وأجيالنا القادمة كيف نتقبل الرأي الآخر، ونحاوره للوصول إلى الحقيقة، لا أن نجزم بصحة ما نقول وخطأ غيرنا بشكل مطلق، ومن الضروري أن ننذكر بأن لدينا من الأخطاء ما يوازي حسناتنا وربما يزيد، وليس أن نعزز لدى شبابنا الصغار بأن صرحنا كل من فيه بلا استثناء حسن !!!
الحرب على دين الإسلام مستمرة من أعدائه ومن بعض أبنائه منذ ظهوره، وهو ليس بحاجة لمن يحميه من البشر، ولن يتوقف يوماً عند أحد من بني البشر، ولو كان كذلك لإندثر الإسلام بوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن رب البشر تعهد بحماية وحفظ هذا الدين، فلا يظن بشر بأنه قادر على إحتكار أو إنهاء أو إضعاف هذا الدين، فكلما تمت محاربته وتحجيمه زاد قوة وإنتشاراً بين البشر، لأن ما يحميه الخالق عز وجل لا يقدر أحد على المساس به، وعلى من يشكك في ذلك العودة إلى بدايات الدعوة، عندما كان الرسول ومن معه ضعافاً محاربين، وكان أصحابه يعذبون أشد التعذيب، فهل مات الإسلام بموتهم أو اندثر بتعذيبهم، أم أنه وصل لمشارق الأرض ومغاربها بصبرهم وتصميمهم وقوة إيمانهم، الأمر الذي يؤكد أنه لا ينبغي لأي حزب أو جماعة أن تصور الحرب عليها حرباً على الإسلام، فالإسلام أكبر من أن يحتكر او يحصر في أي جماعة.
خرجت منا هذه السطور من أجل دموع الفرح التي ذرفت منا لحظة إنتصار الشعب المصري في ثورة 25 يناير 2011م، والتي استبدلت بالحزن والخوف من بداية تفتيت وحدة الشعب في 30 حزيران 2013م، وإن كان الجيش المصري مازال الشرفاء فيه يظهرون للعالم الفرق بين جيش تأسس لحماية شعب، وبين جيش تأسس حماية لنظام حاكم، فسلام عليكم من القلب يا أهل مصر، ويا أهل الشام، ويا أهل العروبة والإسلام.
ولعله من عجائب الزمان أن يضحى بحاكمين من أجل شعب خلال عامين في مصر، بينما يضحى بشعب من أجل حاكم منذ عامين أيضاً في بلاد الشام، بعد أن كانتا يوماً جمهورية عربية متحدة !!
وليت عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائل: (خير لي أن أعزل كل يوم والياً من أن أبقى ظالماً ساعة نهار)، ليرى كم بيننا اليوم من الظالمين من الساعات أنهار !!!