هكتور العربي

هكتور العربي

هكتور ، الإنسان، البشريّ، المخلوق المقدّس، جنس الأنبياء، ما بين الملاك و الشيطان، هي كلها صفات لتركيبة واحدة من الميزات الضرورية للوجود النوعي، إنها الأغرب على الإطلاق، من بداية محاولة فهمه، و هي التي تأخذ كل الوقت في عملية تقنية أيضا، إنها عملية "التفكير"، فما كان من الذين يعتبرون البشر مجرّد أدوات سوى أن يراجعوا أنفسهم، و ذلك لأنّ الحروب، القتال و المعارك هي مراحل اجتازها الإنسان، و على هذا الأساس دار الجدال، النقاش و الحوار حول أحقية و مدى صلابة دور هذه التركيبة في فلك الوجود و الموجودات، فكانت من نتائجها حرب المفاهيم و التصورات، دوامة من الرهانات، و زجاجة خمر منبوذة بسبب تغييب قائد هذه الصراعات، بحيث أنها تدفع العقل إلى الاستقالة، و هي التي تبعد كل هواها عن السجلات، فقيمته هي أعلى مراتب القيم، و نذالته هي أشنع مراتب الابتذال، و ما بينهما لن يكون سوى اتزان.
من هذا كله جاءت الأفكار، و خرجت الأعذار، فكانت الأساطير موردا، و الفلسفات مبرهنة، و العلم مستكشفا، و الأديان ضابطة، و المجتمع قاعدة، و السياسة وباء و ابتلاء، و الطبيعة جبهة، و الإنسان مركز حيرة و تحدي. و منه ظهرت الوظائف، فكان الكاهن، الراهب، العالم، المصلح، الساحر، الحكيم و الفيلسوف، إضافة إلى الصناع و الجنود و الحكام و الطغام و غيرهم من أصحاب الفنون و الفتون، طرقا لتسيير البلاد، و سببا لينسكب المداد، و مبررا لتوزيع الأفراح كما الأحقاد.
و على مرّ الأزمنة و الأزمان، كان هناك محرّك، دافع، مسيّر و حتى مدير، تُنسب إليه الحكمة، و عليه العُطل تتربص، فما كان هذا سوى: العقل. فما هي مكانته؟ و ما الذي يدفع الإنسان للتميّز به؟ و كيف يتمّ عمله دون غيره من سائر الأعمال؟
لن نكون نحن الأوّلين في هذا، و لا آخر قطرة من هذا البحر الأوسع من الواسع، و عليه نحن جزء أقلّ من اليسير عندما نبحث في تسيير العقل، و إعمال الفكر، و تلخيص الحكمة، و صياغة الفلسفة. كما علينا أن نشير إلى الرجال الذين سبقونا من أشراف أساتذتنا في هذا، و بعض أصحاب المبادئ، و الأوجاع، الناظرين في سبيل كبح جامح المهلكات، و محاولة تحديد حدود المفيد من كل جديد أو تجديد.
و لربما يظهر أحد من الموحدين، أو غيرهم يسأل عن جدوى حلقتنا المصاغة هذه، و عن طريقتها الهزيلة من حيث الكم و النوع و شكل التوريد و التنميق، و نحن نعطيه تصوّرا لجواب يقول بأنّ هذا من جود عقولنا في تفكيك و تجميع ما يدور، و يلخص جوانب طواف العقل حول صنف المعاني، كما نحن ندعو كل متشائم إلى محاولة الفهم، فإن لم يقدر لصلابة عوائق فهمه، فلا ضرار منه، إن هو أراد بنا إحسانا، و إن هو أقبل على العكس من ذاك، فما لنا له غير أن ننصحه بالتالي من النصائح: " إننا أناس من صنف العنقاء، و كل مدرك لهذا الصنف يعرف ما يجول به، و عليه أن يدرك المعنى ليحتاط من حركة المبنى".
هو ابن الشقراء، ابن صاحب الشارب الأسود، هو ليس إنسانا، و لكنه يسكن بداخله، هو ليس بحيوان، و لكنه يشبهه، هو ليس بنبات، و لكنه يتنفس عكسه، إنه من نوعية خاصة، بإمكانه حمل معاناة الشعوب، فكان مكان ولادته أول ذرة من بداية المأساة، و أوّل لحظة من إطلاق هموم سكان شواطئ البحر المتوسط، قالوا أنه عربيّ، لكنه لا يتكلم العربية، قالوا أنه مسلم، لكنه لا يبدوا من تصرفاته أنه على الإسلام، قالوا أنه متخلّف، لكنه منخرط في المنظومة العالمية، قالوا كثيرا من الأمور، لكنه لم يثبت أيّ منها، فهو مجهول بلا عنوان، و لكنه موجود و لا يكفّ عن الدوران، يحكي قصص المرجان، و كأنه يهذي، و كأنه الوحيد الحالم بعالم الفرسان، لكن هيهات! لأنّها سنّة من هو كالإنسان، فهو لا يملك و لو القليل من سلطة أزهار النعمان، إنه الداء و الدواء، إنه الرجاء و الشفاء، و لكن في الوقت نفسه هو سرطان البحر، سرطان الموت، و هو البلوى و الشقاء، لربما هو المولود الأوّل و الأخير، فهو الوحيد ذا التأثير إن فكّر، و له تُنصب الآذان إن هو تحدث، و يتم على يديه التحرير إن هو كان مع المظلومين، و بأمره يُنجز التخيير إن هو وصل إلى السلطة و الحكم، فما كان منّا إلاّ أن نبيّن بأنّه أوّل المطيعين للحكام الصالحين و المصلحين معا، فهو يعتبر الحكم آفة قبل أن يكون غيرها، و على منوال هذه، له أفكار أخرى، فحياته تتخذ من نسيم أفريقيا و عراقتها، و من أوربا و متانتها عبق ثقافته المتجددة، و من الإسلام خلاصة الديانات فصاحة الأصل و المنبر، فكان و لم يزل و سيبقى الأزليّ، لأنّه هكتور العربي. و الذي له من الفلسفة البيان، و من البرهان الإذعان، و من العبرة السلطان، و من الحياة أو الموت الزمان، و من الأسطورة الإيمان، و من الظروف ألحان الكمان، و من كل شيء أو أيّ شيء أشواق محبي سماحة الإنسان. إنه هكتور العربي الذي سيرافقنا بلا ضجر، و لن يكون منه أيّ ضرر، و على طريقته سيطيب لنا السهر، في تدبّر كلامه الذي يعلوا إلى مقام الإحسان، فلا يكون عليه، فقط قسوة اللسان، الذي يمثّل سطوة الأجيال على من لهم القدرة على الالتزام، بلا فائض أو نقصان. ففي ليلة شتاء باردة، و لد طفل على شاطئ جنوبيّ، هو ذاك الذي ضاعت معه أحلام المراهقة، و هو ذاك الذي لم يعلم بأنّ ما ينتظره هو جحيم ممتع، فكان هو أوّل من فكّر في المجد على طريقة الأقدمين، و لكن في زمن يختلف جذريا عن زمن الأوّلين، فضاعت في متاهاته كل الأوهام، ضاع الكلام، ضاع الالتزام، ضاع التمام، و ضاع أيضا كيس الإلمام. فمنذ نشأته الأولى حمل علامات الحمْد، و منذ ذلك الوقت و هو يفكّر في هفوات كثيرة لم تولد معه، بل كانت موجودة قبله بكثير، تلك التي تحكمت في حياته دون إذن منه، تلك التي لبست الكثير من أزيائها الجميلة لتخفي قبحها، و تلك التي لم ينسى قبحها و لو للحظة، لأنها كانت وراء كلّ ما حصل له من انكسارات، لم تكن واحدة، و لا ألف آلاف، و إنما كانت مستعصية عن الحساب و التعداد، لهذا قرر أن يواجه بدل الهروب، فهناك من يسميه هروبا إلى الأمام، لكنه يراه في كل الأحوال هروبا، و هو ليس من شيم العباقرة، و لا الخالدين المزعجين، إنه محصور على رصيد الظالمين الجهلة، أو على القطيع، و على هذا كان له طريق خاص، منهج خاص و حياة خاصة به في كل الأمور، التي تبدوا للوهلة الأولى عادية جدا في محيطه، بينما هي كذلك فقط لمن لا يستغلّ إنسانية الإنسان لأداء حجه الأعظم.
يجلس هكتور على سريره، يتناول قلمه الأسود، و يكتب على دفتره ما يدور في خاطره، كل هذا يحدث في منزل أبيه الخالي، و هو يضع دفتره فوق طاولة بنية الطلاء، فوقها سجادة الصلاة، و إلى جانبها كتاب "كليلة و دمنة" . ليرغب في كل هذا أن يدرس حالة الفرد عندما يشعر بالرغبة في فراق أحدهم، ذلك الشعور المدهش، إنها خليط بين الإقدام و محاولة الامتناع، لأنها توفر قيام قضية الرغبة ذاتها من عدم توفرها في الآن ذاته، و تطرح استفهام توحّد الرغبات بين طرفيْن على الأقل، لترسم محيطا يعلوه كلّ ما من شأنه قيادة الحيرة إلى القلب، و على هذا يكون الفصل في وجود انجذاب من أساسه مرهِقا. لأنّ قياس الفرد البشري بمقاييس الاجتماع أمر صعب للغاية، تكوّن حاجة ملحة إلى حضور عالم اجتماعي بوسعه إعطاء تصورات عن القضية المطروحة، و مدى تأثيرها في ما حولها، حتى لا ننتج الضرر، و هي القائمة على تجميع حاجة الإنسان إلى الفرد، أو حاجة الفرد إلى الآخرين، لأنّ مداومة مدّ أطراف الاتصال إلى من يقطعونه من جذوره يبقى ذا أبعاد غير متحكم فيها، لربما هذا ما خطر ببال هكتور عندما أراد طرق هذه المسألة، و لربما حاول أيضا التخفيف من دهشة و وطأة كلّ هذه العواطف، فالآخرين هم الجحيم كما جاء عند جون بول سارتر ، إنها حقا حيرة مؤسسة. لأنّ كثيرون من نحبهم يتبخرون، و كثيرون من نحترمهم يتمردون، و كثيرون أيضا نخلص لهم الولاء فينقلبون على أنفسهم قبل أن ينقلبوا علينا، فبمن نثق؟ و من نأتمن؟ و من نفرغ له ما ضاق به الصدر من هواجس؟ من؟
يتوقف هكتور قليلا، يمسح على رأسه، و كأنه فاصل بين الأفكار، ثم يعود انغماسه، فهذه حقيقة علينا متابعتها باهتمام. فلقد تعرض هكتور إلى الكثير من القضايا المشابهة، ففي سابقة قبل حوالي أربعة سنين، كان فاشلا، حيث أصبح مثالا صالحا عندما يتم الحديث عن الإخفاق، فكان أقرب أصدقائه (أصدقاء الطفولة) يرمونه بهمزاتهم، إنك بحاجة إلى أوراق أيامك حتى تفهم يا هكتور، إنك بحاجة إلى تاريخك الأسود، و خاصة إلى تلك العبارة: " عليّ أن ألبس الجديد، من أجل التشفي في الفاشلين"، قالها أحد أصدقاء هكتور، و هو في قمة عدائه لمحيطه الذي رماه دون أعذار.
لحظة!
لقد تذكر هكتور أنّه تعرّض إلى الأسوأ، عندما أهين أبوه بسببه، و كذلك أمّه، دون أن ينسى ما تعرّض له كلّ أفراد العائلة الصغيرة، إنها من مآسيه التي لا نهاية لها، إنها حال من أحواله، و لقد تذكّر أنّه فرّ من الواقع على طريقة الجبناء وقتها، لمدّة امتدت إلى خمس سنوات كاملة، عاميْن في حبّ من لم تحبه يوما، فأحدثت له فضائح و مشاكل قادته إلى سواد من العتمة، و ثلاث سنين من الجهل الذي تجاهله، في أحضان أنثى أخرى، لا تريد سوى أن تكون في قربه، محاولة أن تعطيه روحها، فقابلها هكتور بأن تلاعب بها لمدّة طويلة، ثمّ تخلّص منها في أوّل اختبار حقيقيّ لصمود علاقتهما، ليعود هكتور من رماد الإخفاق إلى لهيب النجاح ثانية، و هو يحمل معه أسئلته التي انطلق منها، تلك التي قادته إلى هذه المحافل، تلك التي ذكرته بأنّ من صادقهم ليسوا أصدقاء سوى اسما، فالصديق الذي ينافس صديقه بطرق غير شريفة هو خسيس بدل أن يكون صديقا، و عليه أن ينسحب، و يفسح الطريق لهكتور حتى يبقى وحيدا، لأنّ الوحدة شفاء، إنها من تخلـّص الفرد من أسقام حقد أصدقائه، و حصنه الذي يحميه من غيرة أحبائه، و هي بلا منازع حارسه من أمراض قلوب من يتعامل معهم، فيزداد الشوق إلى الابتسامة، و يكسر قرع الباب كل جولات هذه الوحدة، لتذكّر البراءة هكتور بأنّ القَدَرَ هو الذي جعله يعيش عالمه بكلّ التفاصيل.
قريبة تلك القرحة التي تصيب هكتور الآن، من أن تصيب أيّ شخص آخر، لأنّها تتعلّق بأمر حيويّ في الذات، فهي التي تحدد مسارات يسلكها الفرد مرغما في اغلب الأحيان، فحين يحتاط أيّ منا من أشخاص مختارين، يجد نفسه في الآن ذاته يتواصل مع أشخاص آخرين، لربما هذا ما جعل البشر بشرا، و هو سبب اتخاذ قرار إقامة القبائل، الاجتماعات، و المجمعات إضافة إلى المجتمعات فالأمم، و غيرها من حزم الكائنات البشرية.
يكاد هكتور أن يفكّ لغز وحدته لوحده، إنها استراحة فحسب، لأنه لا مناص من الإمساك بقسطاس التواصل، مهما كانت طبيعته فهو ضروريّ للشعور بمكان الوجود، هو عنصر من الوجود على ما يبدوا. لأن الفرد بحاجة إلى الراحة من معاناته، حتى و لو لم تطل مدتها إلاّ أنه بحاجة إليها، و كما حدث مع هكتور فقد امتدت إلى خمس سنين، لربما أكثر نوعا ما، و كم كانت قاسية عليه، اكتشف خلالها كل غطاء، و أسقط بواسطتها كل قناع، و ما أكثر التزييف على سواحل المتوسط الجنوبية، حتى أنّ الذي يمشي فوق رمالها كهكتور، نادرا ما يصادف أمرا، شخصا، شيئا أو حتى قطرة ماء تستقي حقيقتها من ظاهرها. و منه جاء تفضيل الوحدة على التواصل مع المزيّفات من الأطراف، لهذا السبب بقي هكتور وحيدا.

السيّد: مــــزوار محمد سعيد