دعاني الصديق مجحم الخريشة يوم ٢٢ حزيران الماضي إلى الموقر لحضور احتفال تجديد وثيقة الأخوة والصداقة بين قبيلة بني صخر وبين عشائر الشراكسة. الوثيقة الأولى وقعت في بداية القرن الماضي. ولقد وجدت نفسي أمام حدث استثنائي وغير متوقع على أجندة السياسيين ولا على قائمة الأخبار في وسائل الإعلام.

كان حاضر المئات من الشراكسة ومن عشائر بني صخر وتحت عنوان (مجددو الوثيقة) وقع ممثلو الطرفين عليها: دولة الشيخ فيصل الفائز ومعالي الشيخ محجم الخريشة ورئيس المجلس الشركسي عدنان مولود كلمات، وكل من الشيوخ نواف الخريشة وبركات الزهير وعويذرعضوب الزبن ومحمد ضبعان المور. وعن الجانب الشركسي معالي منير حسني صوبر وحسن داوود خورما ومحمود حسين دهشان وخير الدين إسماعيل هاكوز وعمران أمين خمش.
العودة إلى مآثر السلف كما تقول الوثيقة هو بغرض استنهاض الأجيال الحاضرة وإعادة الاعتبار لزمن تعرض فيه تاريخ رجالاته الى « طمس منظم متعمد «. ومع ان ظاهر الاحتفال يبدو متعلقاً بحدث على المستوى العشائري بين بني صخر والشراكسة الا أني وجدت في الحدث ومحتوى الوثيقة ما يجعلها محاولة ميدانية لتذكير الاردنيين جميعا ببعض شمائلهم وطبائعهم العشائرية الحميدة في زمن عزت فيه مثل هذه الطبائع والشمائل التي وصف بها الأسلاف.
في بدايات القرن الماضي كانت سلطة الدولة العثمانية شبه غائبة عن هذه البلاد ومع ذلك لم تحل مكانها سلطة الغاب او حارة (كل من وأيده ) وسمعنا من الرواة قصصاً عن كيفية القضاء على قطاع الطرق بتوافق أبناء العشائر، وكانت مضافات الشيوخ مكاناً يأوي اليه المسافرون من منطقة إلى أخرى، وان حدثت غزوات او مواجهات تنتهي عادة بمواثيق ومعاهدات يكتبها قضاة محترفون من البادية وتستخدم عرفاً عاما للمصالحة وحسن الجوار يعترف به الجميع.

وأنا هنا لا أدعو إلى الرجوع مئة عام إلى الوراء انما أسجل روايات للتاريخ وللذاكرة الوطنية.
شمائل الاردنيين وبالمقدمة نكرانهم للتعصب، اثنياً كان أم طائفياً، تجسدها أمثولة التعايش بينهم وبين الشراكسة والشيشان الذين وصلوا الى الاردن في القرن الثامن عشر وبدايات القرن الماضي بعد تعرضهم لموجة جديدة من القمع الروسي. أقدامهم قادتهم إلى هذه البلاد بدوافع الأخوة الدينية، فوجدوا في العشائر الاردنية الأهل والأنصار ولم يثر اختلاف اللغة والسلالة عزلة بينهم وبين العرب، وفي جيلنا شاهدنا كيف ان الشراكسة والشيشان كانوا في بعض الأزمات التي واجهها الاردن أكثر غيرة ووطنية من بعض الاردنيين.

لا يوجد في وعينا وسيرة أسلافنا عن تاريخ العشائرية الا ما يجعل الناس يتقبلونها ويفخرون بها الى ان توطنت في الحواضر والأرياف فاصبحت هوية المجتمع الاردني التي لا تعرف أي انحراف نحو التعصب الإثني والطائفي. وهنا سأجمل ما جاء في بنود وثيقة التجديد بين الشراكسة والصخور التي اكدت على الانتماء للوطن والدولة وهذا أمر بالغ الأهمية في زمن تتفكك فيه الأوطان من حولنا بعد ان غاب الانتماء عند الحكام والمحكومين.

وتؤكد الوثيقة على الإرث الوطني المشترك بين الاردنيين، والعهد على حماية الوطن من الاخطار التي تتهدده، ونبذ العنف بين العشائر وحل الخلافات بروح من المسؤلية المشتركة، وتشجيع التواصل والتعارف خاصة بين الشباب، هذه الوثيقة رسالة إلى سائر العشائر الاردنية لإعادة إنتاج الموروث الطيب من العلاقات بين أبنائها.

وأخيراً أتوجه بتساؤلات مشفوعة بالحيرة والقلق إلى أبنائنا الذين يثيرون المشاجرات في الجامعات باسم العشائرية بما يسيء اليها والى الصروح العلمية التي لم يتركوا بممارساتهم من يدافع عنها. وأقول اذا كان موروث مجتمعنا العشائري لا يقر حروب (داحس والغبراء ) في الجامعات القائمة على عصبيات لا تنتمي إلى القيم الاردنية !؟. وإذا كنتم لا تنتمون إلى أحزاب في الحكم وأخرى في المعارضة فعلى ماذا تتشاجرون !؟.