الحل في تطبيق مفهوم الدولة القانونية


من أهم النقاط التي تطرق لها جلالة الملك في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تخريج طلبة الجناح العسكري في جامعة مؤتة، ظاهرة العنف المجتمعي الذي بدأ يضرب أوساط الدولة الأردنية في مدنها وقراها من شمالها لجنوبها، وانتقل مؤخرا الى جامعاتها وكلياتها العلمية. فقد عزا جلالته أسباب هذه الظاهرة إلى عوامل عدة أهمها التهاون في تطبيق القانون على الجميع وغياب العدالة والمساواة في تطبيقه، وهو ما دفع الفرد إلى اللجوء للعنف لكي يأخذ حقه بيده ويتطاول على حقوق الآخرين.

أما الحل الذي قدمه جلالة الملك لإعادة هيبة الدولة والثقة الشعبية فيها فيتمثل في قيام الدولة بمؤسساتها بواجبها بتطبيق القانون بشكل كامل والحفاظ على النظام العام وعلى حقوق الناس وممتلكاتهم. وهذا الحل يتجسد من ناحية قانونية ودستورية من خلال تطبيق مفهوم الدولة القانونية، وهي تلك الدولة التي تحتكم للقانون في علاقتها مع مواطنيها ورعاياها فيكون هو المرجعية العليا التي تنظم المراكز القانونية لها وللأفراد الذين يتعاملون معها.

إن القانون كما يُعرِّفه الفقه هو مجموعة من القواعد القانونية العامة والمجردة التي تصدر عن السلطة التشريعية لتطبق على الجميع على قدم المساواة من دون أي تمييز بينهم لاعتبارات مختلفة. لذا فإن المبدأ الأساسي الذي يجب على الدولة القانونية إتباعه عند تطبيق القانون هو مبدأ المساواة، بحيث يخضع جميع الأفراد المحكومين لأحكامه ونصوصه، ولا يخرج على ظلال تطبيقه أحد انطلاقا من أن القانون قد صدر ليطبق على الجميع من دون استثناء.
لذا فالدولة القانونية هي الدولة الديمقراطية التي تلتزم بمبدأ سيادة القانون وتستمد شرعيتها من إرادة الشعب الحرة، وتلتزم السلطات فيها بتوفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية التي أرسى الدستور قواعدها، وأكدتها جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

لقد كان من أهم نتائج هبوب الربيع العربي على المنطقة العربية إعادة العمل بمفهوم دولة القانون بمعناه العصري الذي يقوم على مجموعة من المرتكزات أهمها اعتبار الدولة هي دولة المواطنين جميعا مهما اختلفت آراؤهم أو تعددت اجتهاداتهم، وتأكيد أن الدولة تستمد قوتها ووجودها الشرعي من خلال التطبيق الفعلي المعلن لمبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص، وأن الحكم فيها يجب أن يستند الى إتاحة المجال الفعلي والحقيقي لكافة أفراد الشعب في المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بشؤونهم العامة.

كما ترتكز الدولة القانونية على الالتزام بأحكام الدستور نصا وروحا في أعمال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي إطار تنظيم العلاقة بينهم، والالتزام بمبدأ سيادة القانون في إطار الرقابة الكاملة للسلطة القضائية المستقلة، وترسيخ قيم التسامح والموضوعية واحترام معتقدات الغير وكفالة الحق في التعبير عن الرأي وإعلانه بحرية كاملة، والنأي بالممارسات السياسية والحزبية عن الصراعات الشخصية الضيقة وعن تجريح الأشخاص والهيئات الرسمية .كما يشترط لتفعيل مبدأ الدولة القانونية الحفاظ على صفتها المدنية والديمقراطية، واعتبار أية محاولة لإلغاء تلك الصفة أو تعطيلها باطلة من أساسها لأنها تشكل تعديا على الدستور وانتهاكا لمبدأ التعددية ومفهومها.

في المقابل، فإن مفهوم الدولة القانونية يفرض على مؤسسات الدولة جميعها القيام بواجبها في التعامل مع المواطنين والهيئات العامة وفرض القانون عليهم على أساس المساواة التامة والعدالة. كما يتطلب التطبيق الأمثل للدولة القانونية مراجعة التشريعات الناظمة للقوانين كافة ذات الصلة بالعمل السياسي وأهمها قانون الانتخاب وقانون الأحزاب السياسية لكي تكرس الحقوق السياسية للأفراد، وأن تعتمد أسلوب المشاركة السياسية وتكريس الحوار الديمقراطي في التعبير عن الرأي بعيدا عن أساليب الضغط وأشكال الإرهاب الفكري كافة التي قد تمارسها الدولة على الأفراد المحكومين.
ومن النتائج المترتبة على قيام الدولة القانونية بتطبيق القانون بشكل عادل ومتساو تفعيل مبدأ المشروعية كمبدأ أساسي للحاكمية الرشيدة. فهذا المبدأ يقوم على أساس احترام الإدارة لأحكام القانون في تسييرها لشؤونها اليومية وتعاطيها بشكل متساو مع الأفراد المتعاملين معها. فحتى تتمتع جميع القرارات الصادرة على الإدارة وتصرفاتها بصفة المشروعية فإنها يجب أن تصدر وفق أحكام القانون بشكل يضمن عدم الاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم الدستورية. فالفرد سيشعر بالراحة والطمأنينة وسيسترد ثقته بالدولة وأجهزتها المختلفة عندما تبادر إلى القيام بالمهام الموكلة إليها دستوريا وقانونيا والمتمثلة في إشاعة جو من الحرية والأمان والاستقرار وسيادة القانون من خلال تفعيل مبدأ المشروعية.

ومن خلال تمسك الدولة القانونية بمبدأ المشروعية في علاقتها مع الأفراد، فإنها تستعيد القدرة والصلاحية القانونية على أن تمارس الدور الذي نشأت من أجله وهو فرض القانون كأداة لضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد والفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد، فيأخذ كل فرد حقه وينال المعتدي جزاؤه القانوني. ومن خلال تطبيق مفهوم الدولة القانونية ومبدأ المشروعية يتحقق الهدف الأسمى من الحكم المتمثل في حماية النظام العام بعناصره الأربعة وهي الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة، والآداب والأخلاق العامة.