الاختراقات الوهابية للمخيمات الفلسطينية

عدما زلزلت النكبة زلزالها، واخرجت عام 1948 فجائعها واهوالها، وشردت عشرات آلاف الفلسطينيين من ديارهم، تم على عجل تلفيق جملة من المخيمات داخل ما تبقى من ارض فلسطين وفي دول الجوار العربية لايواء هؤلاء اللاجئين والمشردين مؤقتاً الى حين عودتهم، حرباً او سلماً، الى منازلهم ومنابتهم.

طال امد الانتظار، واخلف 'حق العودة' موعده غير مرة، فلا العرب اعملوا سيوفهم في رقاب الاعداء الصهاينة، ولا غصن الزيتون الذي رفعته الامم المتحدة اقنع دافيد بن غوريون بالسماح بعودة 'اصحاب المفاتيح' الى بيوتهم التي احكموا اقفالها حرصاً على موجوداتها، واملاً في الرجوع السريع اليها.

بمرور الوقت تحولت تلك المخيمات الملفقة والعشوائية من حالة سكانية الى حالة سياسية، ومن شاهد على مأساة النزوح والغربة الى شاخص يؤشر على حق الرجوع والعودة، ومن كتل بشرية تغص بالحرقة واللوعة والانتظار الى مراجل ثورية وحواضن نضالية تفعل فعلها في المحيط العربي كله.

حين اشرقت شمس عبد الناصر في مطالع عقد الخمسينات من القرن الماضي، وجدت هذه المخيمات ضالتها في هذا الزعيم القومي الساطع، ووثقت فيه وعولت عليه والتفت حوله باكثر مما فعل شعبه المصري او اي شعب عربي آخر.. كانت في غالبيتها الساحقة قومية الهوى والمنتمى واليقين بان الوحدة العربية درب العودة الفلسطينية، ووسيلة الانتصار على الهجمة الصهيونية والامبريالية العالمية.

عند عقد الستينات، وبعد هزيمة حزيران عام 1967 ارتفعت اصوات فلسطينية كثيرة، بعضها صادق وبعضها مزايد، بالدعوة لتسلم زمام القضية الفسطينية، واعتبار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، واعتماد الحرب الشعبية والكفاح المسلح والمقاومة الطويلة الامد وسيلة لقهر العدو المحتل وتحرير كامل التراب الوطني.

ولان فلسطين قضية قومية بالدرجة الاساس، ولان العدو الصهيوني عدو استراتيجي للعرب عموماً حتى لو ابتدأ بالشعب الفلسطيني، فلم يحصد دعاة الفلسطنة والمعتقدات القطرية والاستئثارية سوى الوهم والانهزام والاستسلام على ابواب العاصمة النرويجية التي شهدت عام 1993 توقيع 'اتفاق اوسلو' المشؤوم الذي انطوى ضمنياً وفعلياً على اسقاط 'حق العودة'، وتقزيم خارطة فلسطين لتقتصر على الارض المحتلة عام 1967.

منذ عام 1967 الذي شهد نكبة فلسطين الثانية حتى عام 1993 الذي اغرورقت عيناه بالدمع اسفاً على التفريط العرفاتي والعباسي بحقوق الشعب الفلسطيني الجغرافية والتاريخية، شكلت المخيمات عماد الثورة والكفاح المسلح، وقدمت من الشهداء ما لا يمكن عده وحصره، وتعرضت لهجمة تنافسية واسعة من قبل كل الفصائل والتنظيمات التي اوغلت فيها تجنيداً وتحشيداً وتنظيماً وتمويلاً، بدعوى التحرير والعودة وحق تقرير المصير.

كثيرة وخطيرة هي آفات وسلبيات 'اتفاق اوسلو' الملعون، غير ان اكثرها فداحة واشدها وقاحة، ذلك الاهمال المزري لقضية المخيمات التي اكلوها لحماً ورموها عظماً.. تسابقوا على خطب ودها ردحاً من الزمن ثم غادروها فجأة ودون سابق انذار.. فلا مشاريع ولا برامج ولا مهمات ولا مخصصات، نظراً لان منظمة التحرير لقيت حتفها في عاصمة النرويج، والممثل الشرعي الوحيد عاد تحت راية اوسلو الى رام الله وغزة، تاركاً للمخيمات في الشتات ان تقلع شوكها بيدها، وتتدبر شؤونها بنفسها.

آه ما اصعب اختلاط البؤس باليأس.. آه ما اقسى الشعور بالضياع بعد الامل، وبالاهمال بعد الحفاوة والاهتمام، وبالخيبة والمذلة بعد نشوة الثورة ورفقة السلاح وحلم العودة الذي كان يلتمع من فوهات البنادق.. آه ما افحش غدر الشقيق، فالخيانة - خيانة المخيمات - لم تأت هذه المرة من حاكم عربي او اجنبي، بل من 'الممثل الشرعي' الذي وعد فما اوفى، وحدّث فما صدق، وائتمن فما حفظ طهر الشرعية وامانة المسؤولية.

ولان السياسة - مثل الطبيعة - تكره الفراغ، فقد طفقت هذه المخيمات المخذولة والمخيونة تبحث مجدداً عن ذاتها وهويتها ومستقبلها ومحلها من الاعراب، وهنا كان الاسلام السياسي لها بالمرصاد، بدءاً من الاخوان المسلمين، ومروراً بالسلفيين، وانتهاءً بالوهابيين التكفيريين الذين توافقوا جميعاً على ان الدين اهم من الدنيا، والسماء اعز من الارض، والآخرة خير من الاولى، والجهاد ابتغاء دخول الجنة اسمى من النضال لتحرير التراب الوطني، حتى ان عبدالله عزام، واسامة بن لادن، وايمن الظواهري وامثالهم قد آثروا الجهاد في افغانستان والصومال والشيشان عليه في فلسطين والجولان وجنوب لبنان.

وهكذا، وفي غياب الممثل الشرعي وسقوط المشروع الوطني التحرري، اخذت المخيمات في الانقلات على موجوداتها ومعتقداتها، وفي التوجه التدريجي نحو اليمين بدل اليسار، والعقل الغيبي بدل الواقعي، والنهج الانقسامي بدل التكاملي، والحركات السلفية والعنفية بدل الفصائل الثورية والفدائية.. وقد شكلت مجموعة شاكر العبسي التي انتقلت من رحاب فتح الانتفاضة الى فتح الاسلام، ثم اشعلت الحرب في مخيم نهر البارد شمال لبنان، اول مؤشر خطر على مأساة الاحلال والابدال في بنية وذهنية المخيمات الفلسطينية.

وقد ترتب على انتشار الافكار والحركات السلفية والوهابية في هذه المخيمات جملة نتائج وانعكاسات ومخرجات مفجعة، اولها واهمها توجيه بوصلة 'الجهاد' نحو الداخل وليس الخارج، ولجهة اصلاح 'المجتمع الجاهلي' وليس تحرير الوطن المغتصب.. الامر الذي جعل العدو الصهيوني بمنأى عن 'جهاد' هذه الحركات والجماعات، فيما اثار حفيظة جانب من الشعوب العربية المضيفة وضيقها وتبرمها مما اعتبرته تدخلاً فلسطينياً في صميم شؤونها الدينية ومعادلاتها الداخلية، وانحرافاً بسلاح المخيمات الى غير وجهته الاساسية المشروعة، وتقبلاً ضمنياً لمشاريع التوطين التي ترعاها الدوائر الامريكية والصهيونية لشطب حق العودة والتحرير وتقرير المصير.

ولعل من الطبيعي والبديهي والمفروغ منه ان تسارع - في هكذا حالة - الاصابع الاستخبارية المعادية الى اشعال نيران الفتنة بين الاشقاء العرب والفلسطينيين، وصب الزيت على نار الكراهية التي بدأت تدب بين هذين الجانبين المتنابزين بالشكوك والاتهامات، وتحويل الحبة فيما بينهما الى قبة من المشاحنات والهواجس والتخوفات، شأن الجاري حالياً في مصر والاردن ولبنان وبعض سوريا ودول الخليج العربي.

الادهى من كل ذلك والانكى، هو انقسام المخيمات على نفسها، واصطراعها فيما بين الجماعات السلفية والتكفيرية الوافدة، وبين ما تبقى من الفصائل والتنظيمات الفدائية الاساسية العتيقة التي ما زالت - رغم ضعفها - ترفع شعار التحرير، وتلتزم بثوابت المقاومة، وتشخص بابصارها وبنادقها نحو فلسطين، وترفض الانخراط والتورط في الشؤون الداخلية للدول العربية المضيفة.

وعليه، فقد غرقت هذه المخيمات - او تكاد - في وباء السلفية القندهارية.. تمشيخت وتمذهبت وتأفغنت واطالت اللحى وقصّرت الدشاديش واستعارت عمائم طالبان، وبات من الضروري والمحتم تداركها سريعاً لانقاذها من هذا الشطط المدمر، واعادتها الى جادة الرشد الوطني والقضية المركزية، وتشجيعها على قراءة الاسلام، ليس بعيون وهابية متخلفة ومتعسفة، بل بعيون عصرية مستنيرة وقلوب فلسطينية مخلصة تزاوج بين الغيرة الدينية والحمية الوطنية، وتعتبر القدس معراجاً وهمزة وصل بين الارض والسماء، مثلما كان عليه الحال في زمن الحاج امين الحسيني، مفتي فلسطين ورئيس المجلس الاسلامي، والشيخ عز الدين القسام، قائد ثورة عام 1935، والشيخ فرحان السعدي والشيخ حسن سلامة، ثم الشيخ احمد ياسين، مؤسس حركة حماس، والدكتور فتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الاسلامي، وغيرهم كثير من العلماء والائمة والشيوخ الذين جعلوا فلسطين هوية وقضية وساحة جهادية تجتذب احرار العرب والمسلمين، ولم يجعلوها مزرعة لتفريخ وتصدير عصابات التخريب والتكفير التي تطلق النار في كل الاتجاهات باستثناء العدو الصهيوني !!