الانتفاضة التركية تكشف ازدواجية أردوغان وحزبه!



لم يكن الأمر يتعلق بقطع شجرة أو بناء مجمع حكومي في ميدان التقسيم باسطنبول حين اندفعت جماهير الشعب التركي 
لاحتلاله ومنع تنفيذ قرار البلدية الذي سرعان ما تراجعت عنه إثر تطور الأحداث المفاجئ والخطر وامتدادها لتشمل أكثر من تسعين مدينة في عموم تركيا، ولتزحف هذه الحشود لمقر رئيس الوزراء أردوغان وتحطم نوافذه وتحاصره، ولولا تعزيز الحراسات عليه بطريقة لافتة لاقتحمته جماهير الشعب الغاضبة ودمرته.

إذن الصورة التي رسمت معالمها سياسات حزب التنمية والعدالة الإسلامي في السنوات الأخيرة بدت اليوم واضحة ولا مجال فيها للتزييف أو الخداع وهي لا ترتبط كما يزعم أردوغان ومؤيدوه بالقوى العلمانية واليسارية أو التحريض، كما أن ملايين من خرجوا في الشوارع للتعبير عن رفضهم لحكومته ليسوا مجموعة من اللصوص كما صرح بذلك وهو يعلن بفوقية أنه سيستأنف على قرار تراجع البلدية ويصر على البناء في ميدان التقسيم في تحد واضح لإرادة الشعب.

من يتابع أخبار الحرية والديمقراطية في تركيا في ظل حكم الإخوان وحزب أردوغان يعرف أن مئات المفكرين والكتاب والصحفيين ما زالوا يقبعون في سجون تركيا بقرارات أمنية من حكومة الحزب الذي يتزعمه وهناك تقارير وشهادات من منظمات دولية ومحايدة أن تركيا تعتبر من أسوأ الدول التي تضطهد حرية الرأي والتعبير، ناهيك عن اعتقالات الضباط وكل من يرفض أسلمة الدولة وارتهانها للأصولية العقائدية التي تظهر بين الفينة والأخرى هناك.
وبالمعنى الشخصي لسلوكيات أردوغان فإن أي متابع لمواقفه وتصريحاته سيرى كم التناقض والشيزوفرينيا السياسية والفكرية التي تحكمها، بل إن الرجل في رده المتشنج على مظاهرات الأيام الماضية بدا كمن أخذته العزة بالإثم، وحين لفت مستشاروه إلى الخلل في هذه عاد الرجل ليلطف منها ويأمر بفتح تحقيق في أسباب ومسؤولية استخدام العنف المفرط بمواجهة الجماهير الغاضبة.

لا ينكر أي عاقل أن الحزب الحاكم في تركيا حقق انجازات كبيرة خلال سنوات حكمه الأولى وحتى عامين سابقين في ظل سياسة تصفير المشاكل وفتح آفاق التعاون مع الدول العربية على وجه الخصوص بعد أن أغلقت أوروبا الباب في وجهه للانضمام إليها، وفي سابقة معبرة عن درجة التناقض في سلوك الرجل ومواقفه كمسلم أو مدع فإنه من أجل تقريب يوم انضمامه لليورو قام بنفسه وعبر حزبه بإلغاء قانون تجريم الزنا.
السيد أردوغان لم يفهم على ما يبدو الآثار المترتبة على سياسة القطع مع سورية تحديداً ولم يفهم خطورة فتح بلاده للإرهاب وتدفق «المجاهدين» منها إلى جارته الأقرب والتي كانت تربطه بها أوثق العلاقات وأكثرها ربحاً للشعب التركي، وحين سقطت أو بالأحرى فشلت سياسة تصفير المشاكل مع كل دول الجوار لم يستوعب الرجل أن من يحفر لأخيه حفرة سيقع فيها، وأنه مهما حاول خداع الشعب بالقول إنه مع حرية الشعب السوري ويبني عليها تدخله الفظ لمصلحة إسرائيل وأميركا فإن الأتراك أذكياء ويعرفون أن الوقوف المزعوم بجانب الحق والحرية له متطلبات تختلف عن سلوك التآمر والعمالة والتخريب الذي ينتهجه السيد أردوغان.

الوضع في تركيا يتفاقم وهو مرشح للازدياد رغم التهدئة التي تبدو في الأفق ذلك أن أسباب هذه الاحتجاجات أو ما يمكن تسميته الربيع التركي عميقة وكبيرة إلى الحد الذي لا يمكن تجاوزه عبر ما يتبعه أردوغان اليوم هو وحكومته. إن سقوط مئات الجرحى واستخدام كل أساليب القمع بما فيها الغازات المسيلة للدموع من طائرات الهليكوبتر وهتاف الشباب في ميدان التقسيم «كتفاً بكتف ضد الفاشية» تشير إلى حجم المعضلة التي يواجهها النظام التركي في ظل قيادة الإخوان المسلمين وحزبهم الحاكم. ولأن عين أردوغان وحزبه تنظر اليوم لانتخابات العام القادم فإن المرجح أن تتخذ الحكومة والحزب إجراءات مرنة لاستعادة بعض الثقة التي فقدتها جراء سياستها العنيفة والفاشلة على غير صعيد بما في ذلك قمع المحتجين بشكل غير مسبوق.

قادة الأحزاب المعارضة وكل القوى المناهضة لحكم أردوغان ومعهم قسم كبير من المستقلين وغير المنتمين للأحزاب يرون في حزب أردوغان خطراً على بلادهم ليس فقط في الخارج بل في الداخل بالدرجة الأولى ويعتقدون أن هناك ميولاً فاشية للنظام يجب وقفها اليوم قبل أن تطيح بالبلاد والسلم الأهلي بها. نعلم أن الوضع ليس على درجة من الخطورة التي تؤذن بسقوط أردوغان وحزبه ورحيل حكومته لكن السياسة التركية وخاصة في شقها المتعلق بدول الجوار وفتح أراضيها للإرهاب سيسرع بالوصول لهذه النتيجة وعلى الشعب التركي الذي انتفض اليوم في مواجهة الغطرسة الأردوغانية أن يكمل طريقه نحو دولة تعيش في سلام مع جيرانها وكذلك في سلام مع نفسها وتنتهي سياسة الازدواجية التي تحكم سلوك أردوغان وحزبه.