البلاغة التونسية
المخاض التونسي بعد فرار الديكتاتور لا يزال طويلا. بين اسقاط الديكتاتور وتفكيك نظام الاستبداد، مسافة طويلة على الوعي والممارسة في تونس قطعها، قبل الوصول الى نظام ديمقراطي تعددي يفي الانتفاضة الشعبية حقها وينفذ شعاريها الاساسيين في الحق في الخبز والحرية.
غير ان البلاغة التونسية تُدخل الى قاموس السياسة العربية مصطلحات جديدة جرى اهمالها او نسيانها، في حومة ذلك الالتباس الكبير الذي فرضه خيار صار بديهة في الحياة الثقافية والسياسية العربية. فالخيار الذي كان مسلما به هو بين الاستبداد والاصولية الاسلامية، ولا مجال لخيار ثالث. ليس صحيحاً ان الترويج لهذا الخيار كان من صنع انظمة الاستبداد وحدها، بل كان ولا يزال جزءا من منظومة فكرية وسياسية تمارسها الدول الغربية، وتخبىء من خلفها خطابا استشراقيا راسخا من جهة، وحنينا الى الزمن الكولونيالي من جهة ثانية.
وقد بدا هذا واضحا في الموقفين الامريكي والفرنسي من ثورة الياسمين. ففي حين حاول الامريكيون استدراك مسألة انحيازهم للديكتاتور في اللحظات الأخيرة، عبر خطاب عام غائم كالذي عودنا عليه باراك اوباما، فان الفرنسيين سقطوا في الفخ، وكانت فضيحتهم مدوية، خصوصا بعد انكشاف اصرارهم على مساعدة الديكتاتور وارسال العون اليه في لحظة سقوطه.
اما رفض الفرنسيين استقبال الطائرة التائهة في الأجواء قبل ان تحط في جدة، فلا يعوّل عليه، لأنه كان من باب تحصيل الحاصل، وجاء تعبيرا عن جبن اخلاقي، وتمسّح بخطاب ديموقراطي صار مليئا بالثقوب.
جذر هذا الموقف قائم على المصالح الكولونيالية، التي ترى في اي نهوض عربي تهديدا لواقع الهيمنة الذي اعيد تأسيسه بالحديد والنار، عندما نجحت الحروب الاسرائيلية في وأد التجربة الوطنية العربية التي جسدتها الناصرية، فصار العالم العربي اسير القمع العاري والبلادة وخطاب الخيانة.
المفاجأة التونسية انها جاءت خارج هذه المعادلة، فالشعب الذي احتل الشوارع تصرّف كشعب، والنقابات التي تصدت للقيادة في المرحلة الحاسمة من الانتفاضة، تصرفت كنقابات، فدخل الى القاموس واقع مختلف، حطّم الافتراض السائد بأن النخب العلمانية تختار الديكتاتور خوفا من الاسلاميين، وان الاسلاميين هم فزّاعة الديكتاتور لاخافة مجتمعه، واخضاعه. كما سقطت المقولة الاستشراقية التي تقول بأن العرب لا يستحقون الديموقراطية لأنهم عرب، وبأن الديكتاتور المتحالف موضوعيا مع عدوه الاصولي هما اداة ابقاء الوضع العربي في خمول الانصياع.
والواقع، وكي لا يجرفنا التفاؤل، فان ثورة الياسمين التونسية، احدثت تشققا في جدار ايديولوجي بالغ الصلابة، ومن غير المتوقع لهذا الجدار ان يسقط بسرعة، لأنه جاء نتاجا لمرحلة تاريخية اعقبت الهزيمة الحزيرانية، ونما على فتات الحرب الباردة، وجاء كنتيجة مسلم بها لانفصال الثروة النفطية عن المنطقة واخراجها من النقاش السياسي بعد حماقات العراق ومآسيه المستمرة، وتوجت كشكل من اشكال انتصار التيارات التكفيرية ذات الجذور الوهابية على الخطاب الاسلاموي.
كما ان الديكتاتور لا يزال يمتلك العديد من الأسلحة، لعل اهمها هو سلاح الفتنة الطائفية، وهو سلاح بعيد عن مغرب الوطن العربي لكنه يعشش في حياة المشرق. فالطائفية قد تكون الملجأ الأخير الذي سيتحصّن فيه الديكتاتور، كي يحمي نظامه المتداعي، وهذا ما تؤشر اليه الأحداث الأخيرة في مصر، وما قد ينتشر كالنار في هشيم التداعي الأخلاقي العربي.
غير ان اشكاليات جدار القمع العربي، يجب ان لا تحجب اهمية البلاغة التونسية، في قدرتها على تقديم الاتجاه الصحيح للخروج من هذا النفق العربي المعتم.
لقد اثبت الشعب التونسي ان قوة الديكتاتور مرهونة بالتخويف، وفي اللحظة التي ينكسر فيها الخوف يسقط الديكتاتور ويتهاوى. كان يكفي ان يخرج الناس الى الشارع، وان تنمو حركة الاحتجاج بوتيرة تصاعدية، كي ينهار النظام الذي بدا راسخا وابديا. ولأن سلاح الديكتاتور الوحيد هو التخويف، فانه في اللحظات الحاسمة يتحول الى جبان رعــــديد، اي ان سلاحه ينــــقلب به وعليـــه، ويجعل منه اضحوكة. هذا ما حصل في تونس، ففي اللحظة التي عجزت فيها اجهزة الأمن عن احتواء الثــــورة، وعندما تصرف الجيش كمؤسسة ونأى بنفسه عن ارتكاب المذبحة، والتي لم تكن قادرة في جميع الأحوال على حماية الاستبداد، في تلك اللحظة بدأت علامات الخوف تظــهر على الديكتاتور، وانقلب السحر على الساحر.
نظام الخوف والتخويف لا يستند الى اجهزة قمع مدربة وقوية فقط، بل يحتاج الى بناء ايديولوجي قائم على اخافة الناس ليس من القمع فقط، بل من بعضهم البعض. اي اقامة نظام تفقد فيها الافكار والقيم معانيها، واشاعة فراغ روحي يحتله القمع.
درس البلاغة التونسية الأول ان معالم الطريق اتضحت في الطريق، وان هناك خيارا آخر اسمه المجتمع، وان تحالف النخب مع الطبقات المسحوقة، كفيل بأن يعلن بداية جديدة مذهلة وغير متوقعة.لذا تحالف كل اشباح الظلام، من الغرب الكولونيالي الى مماليك النظام العربي في محاولة يائسة لانقاذ الديكتاتور، وعندما فشلوا، تركوه تائها في الأجواء، قبل ان يلتحق بعيدي امين في السعودية، ويخلد الى صمت الموتى.