نجاح ملحوظ لتياري اليسار والقومية في الأردن



شكلت النقابات المهنية ولا زالت، إحدى قلاع العمل الجماعي والتعددي لدى الأردنيين، إلى جانب مجلس النواب، والأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، والنقابات العمالية، وكذلك البلديات والنوادي والجمعيات، وهذه وتلك تؤثر وتتأثر، بما يجري بين الأردنيين، ولها دور بارز في المشهد السياسي الأردني، ويتراجع دور هذه العناوين والمؤسسات، أو يتقدم، وفق تطور الأحداث والوقائع والمستجدات، ولكنها تبقى عناوين لجهد الأردنيين ووحدتهم وحماية مصالحهم وأحوالهم والمعبرة عن تطلعاتهم، المعيشية والمهنية والسياسية. 
 
خلال فترة الأحكام العرفية، وتعليق البرلمان، ومنع العمل الحزبي، وتقييد النشاط السياسي التي استمرت بشكل أو بآخر، منذ العام 1957 وحتى نهاية العام 1989، عام انتفاضة نيسان في الجنوب، وإجراء الانتخابات النيابية، وعودة الحياة لحرية العمل والنشاط الحزبي والسياسي، واستعادة شعبنا لحقوقه الدستورية، واستئناف عمل البرلمان، خلال تلك الفترة العصيبة والصعبة، كان للنقابات المهنية الأردنية الدور البارز، والنشاط الملحوظ، وكانت القيادات النقابية في تلك الفترة، هي العنوان السياسي والشعبي المعارض للسياسات الحكومية، وكان مجمع النقابات المهنية في الشميساني عن حق هو القلعة المعلنة للمعارضة، حيث كانت غطاء لنشاط وعمل الأحزاب القومية واليسارية، ومنها تصدر المبادرات والاحتجاجات وبرقيات التأييد لموقف، أو الاستنكار لموقف آخر. 
 
ولكن تطورات المشهد السياسي والحزبي والجماهيري الأردني بعد العام 1989، أدى إلى بروز عمل مؤسسات أخرى إلى جانب النقابات المهنية، التي لم يتراجع دورها، ولكن المؤسسات الأخرى تقدمت إلى الأمام بعد التحولات التي جرت في بلادنا بعد انتفاضة نيسان 89، مع بداية التسعينيات، والسماح بحرية العمل الحزبي وعودة الحياة البرلمانية، مما قلص مظهرياً دور النقابات، بعد ولادة المؤسسات الأخرى كالبرلمان والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتم ذلك ليس على حساب النقابات، بل إلى جانبها ودعماً لها.
ولكن الجانب الهام الآخر الذي ميز النقابات المهنية بعد العام 1989، تمثل بسيطرة حركة الإخوان المسلمين، ومن يتبعهم، على إدارة الجزء الأكبر من النقابات المهنية، وهذا يعود لعدة أسباب يمكن إجمالها بما يلي:
أولاً : هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة وانعكاس ذلك مباشرة على تيار اليسار الأردني وتراجع دوره وانحسار نفوذه الجماهيري.
ثانيا: احتلال العراق من قبل الأميركيين وسقوط أهم روافع التيار القومي على المستوى العربي وانعكاس ذلك على التيار القومي الأردني، بالتراجع والانحسار والخسارة. 
 
ثالثا: استفادة حركة الإخوان المسلمين، من حرية الحركة والتنظيم، ومراكمة القوة والنفوذ لصالحها، طوال مرحلة العهد العرفي 57 - 1989، حيث كانت وحدها كحركة سياسية أردنية مرخص لها بالعمل والنشاط والتنظيم، بينما فصائل وأحزاب وشخصيات التيارين القومي واليساري محرومين من العمل، وتتعرض قياداتهم للاعتقال والحرمان من أي نشاط، ولذلك جنى الإخوان المسلمون حصيلة ذلك بقوة النفوذ السياسي والجماهيري وبناء مؤسسات استثمارية تعود عليهم بالنفع والتأثير، وترافق ذلك مع انحسار دور اليساريين والقوميين بشكل لافت . 
 
ثورة الربيع العربي، جددت الحياة لتياري اليسار والقومية، مع فشل الاحتلال الأميركي للعراق، وبروز المقاومة العراقية وتماسكها وتحررها من الإرهاب والتطرف، ومبادرة الشيوعيين الأردنيين لتوحيد صفوفهم، إذ لم يتم ذلك بحزب موحد للآن، ولكنه وحد جهدهم المشترك وألغى بعثرة قواهم واستنزافها ضد بعضهم البعض، إضافة إلى فشل الإخوان المسلمين سياسياً في قيادة المعارضة عبر الجبهة الوطنية للإصلاح بعد انسحاب الأحزاب اليسارية والقومية وممثلي النقابات المهنية من صفوفها، أو على الأقل تجميد عضويتهم في مؤسساتها، إضافة إلى فشل الإخوان المسلمين في قيادة حركة الاحتجاجات وتوجيهها نحو برنامجهم، وفوق هذا وذاك الانطباعات السلبية التي تراكمت في أذهان الأردنيين ووعيهم من محاولات الإخوان المسلمين وتفردهم في إدارة الأنظمة الحاكمة في كل من قطاع غزة ومصر وتونس بعد الربيع العربي، وفي تحالفهم مع الأميركيين لإسقاط الأنظمة في كل من العراق وليبيا وسورية، ما ولّد حالة من التراجع الشعبي في تأييد الإخوان المسلمين أو الرهان عليهم، لصالح القوى والاتجاهات القومية واليسارية والليبرالية المستقلة. 
 
ولذلك تشهد النقابات المهنية نشاطاً ملحوظاً، بقيادة القوى الوطنية والقومية واليسارية وتحالفاتها وتقاطعاتها مع بعضها البعض وذلك عبر الاحتفالات التضامنية مع الشعب الفلسطيني ومع منظمة التحرير وحركة فتح، ومع الشعب العراقي والانحياز لقوى المعارضة والمقاومة ضد الاحتلال والطائفية، ومع الشعب السوري ضد التدخلات الأجنبية والإرهاب والتطرف، ومع غيرها من العناوين التقدمية، ما انعكس على نجاح هذه القوى في النقابات التي جرت فيها الانتخابات هذا العام ومن قبله، وهي نقابات المعلمين، والأطباء، وهيئة المكاتب الهندسية، والمحامون، ومن المتوقع فوز التحالف الوطني القومي اليساري في نقابة أطباء الأسنان، وهزيمة للإخوان المسلمين ومن يتبعهم ومن يعتمد عليهم أو يتمادى للتحالف معهم، في هذه النقابة أو تلك، وفي هذا الموقع أو ذاك. 
 
حصيلة ذلك مؤشر واحد على المناخ السياسي الذي يحكم شريحة النقابات المهنية باتجاه التعددية والدمقرطة وتأييد للتيارين اليساري والقومي التقدميين، وأي فشل لهذه القوى، في أي نقابة مثل نقابة المهندسين التي يقودها الإخوان المسلمون منذ بداية التسعينيات وحتى يومنا هذا، يعود ذلك ليس لقوة الإخوان المسلمين وقدراتهم المالية فحسب، بقدر ما يعود لضعف القوى الأخرى أو لبعثرتها، وعدم قدرتها على لملمة صفوفها، بشكل منطقي ومعقول وذي مصداقية، وانعكاس ذلك على عدم نجاح قياداتها النقابية في التوصل إلى قواسم مشتركة وتفاهمات نقابية تقفز عن الأنانية الضيقة، وصولاً نحو التفاهم السياسي بين مكونات القوى الوطنية والقومية واليسارية الصاعدة في الأردن.
h.faraneh@yahoo.com