في 15 كانون الاول 2012 كتبت تحت عنوان (عائد لتوي من الميدان) إثر زيارة قصيرة للقاهرة لحضور مؤتمر صحي وقد توجهت يومها لميدان التحرير باختياري، أما ميدان تقسيم في استنبول فقد كان وجودي فيه الاسبوع الماضي بمحض الصدفة التاريخية النادرة إذ وصلنا (زوجتي وابنتي وانا) صباح السبت (1/6/2013) الى استنبول لقضاء بضعة أيام للراحة والاستجمام وما أن دخلنا بهو الفندق المطل على الحديقة العامة في ميدان تقسيم حتى اصابتني نوبة عطاس متكرر قدرت أنها حساسية لشيء ما في الجو لم أعرف كنهه الا عندما شاهدنا في الخارج اعداداً من قوات مكافحة الشغب تتحرك في اكثر من اتجاه وهي مجهزة بالهراوات والاسلحة المختلفه ويتدلى من على اكتاف افرادها الاقنعة الواقية من الغازات ! وراحت احدى نزيلات الفندق تحدثنا دون سابق معرفة عما جرى مساء الأمس وكيف اطلق رجال الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين ! وشرحت لنا سريعاً وجهة نظرها في اسباب المظاهرات التي نشبت احتجاجاً على مشروع الحكومة القاضي باجتثاث اشجار الحديقة العامه في الميدان لانشاء مركز تسوق كبير (مول) في مكانها واضافت أن هناك أسباباً أخرى اجتماعية وسياسية منها إعتراض جيل الشباب على محاولة الحكومة الاعتداء على الحريات الشخصية بتمرير قوانين تّحدّ منها أسوةً بما تفعله الحكومات الفاشيه ! وقال لنا ما يشبه ذلك بعض العاملين في الفندق عندما استشرناهم في استطلاع ما يحدث في أنحاء الميدان الكبير (تقسيم) فنصحونا بالحذر، وبعد أن خرجنا واجتزنا قوات مقاومة الشغب وبعض سياراتهم المجهزه بخراطيم المياه شاهدنا عن بعد في اكثر من موقع في الميدان جموع المحتجين يهتفون ويهزجون دون ان نفهم ما يقولون ولا ما كتبوا على لافتاتهم من شعارات، وفي بعض الاماكن كانت آثار((معركة الأمس)) من الحجارة وزجاجات المياه الفارغة وفي الجو بقايا روائح ((غاز)) ثم بعد لحظات سمعنا فرقعة القنابل واضطررنا لدخول شارع فرعي تبعنا اليه عدد من المتظاهرين يحملون اعلاماً ويهتفون ثم بدأوا يجرون بسرعة حين سقطت بعض تلك القنابل بيننا وامتلأ الجو بدخانها الخانق وسمعنا صيحاتهم أن ادخلوا في أقرب مكان، وتدافعنا الى باب فندق كبير دخلناه ونحن نسعل اختناقاً ونكاد لا نرى شيئاً أمامنا بسبب الحرقة في عيوننا وارتمى كل منا على الارض أو أقرب كرسي، لكن الشيء الرائع الذي خفف عنا هو ان كل العاملات والعاملين في الفندق استقبلونا واسعفونا بالمحاليل المضادة لأثار الغاز حيث صبوها على وجوهنا وساعدونا في غسل عيوننا، وبعد دقائق كنا نتعافى تدريجيا وكل منا يتفقد ما حوله ومن حوله، ابنتنا أبلت بلاء حسنا في مساعدتنا رغم معاناتها هي الأخرى مثلما عانينا.. حين عدنا الى فندقنا عن طريق خلفي آمن وجدنا مئات من الشباب والشابات يملأون قاعاته وممراته ويحملون اجهزة اتصالهم المختلفة يساعدهم موظفو الفندق في جو سلمي هادئ، وعلى الطاولات وضعت قوارير المياه والمحاليل! ولما صعدنا الى غرفتنا في الطابق الثامن لنتحرى الأخبار من تلفزيون الـ BBC والـ CNN والجزيرة (العالمية) كانت كاميراتها في مواقع مشابهة لموقعنا فرأينا على شاشاتها ما كنا نراه من الشباك على ارض الواقع !
في المساء بدا وكأن الأوامر صدرت بسحب قوات الأمن لكن اعداد المتظاهرين ازدادت تدفقاً على ميدان تقسيم خصوصاً من شارع الاستقلال وازدادت معها كثافة المتواجدين بين الاشجار في الحديقة العامة، وبقينا نتابع الأمر ونتندر بما حدث لنا في الصباح.. وفي الايام الثلاثة التالية واصلنا (العيش) داخل الحدث وتولدت عندنا انطباعات سريعة لكنها ليست عابرة بل باقية مترسخة في الوجدان، منها أن المتظاهرين لم يكونوا رعاعاً من قطاع الطرق كما وصفوا للصحفيين، كانوا شبابا سلميين بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، لم نر أحداً يحمل سلاحاً، الحرائق التي حدثت وشاهدنا آثارها مباشرة كانت لآليات شركة المقاولات من حفارات وجرافات في موقع العمل، وانطباع آخر عن مستودع ( المشاع) في حديقة غزي (او غازي) حيث يجلب له المتبرعون ما شاؤوا من زجاجات المياه أو المأكولات الجافة والفواكه أو الملابس والبطانيات وكل ما يمكن أن يحتاجه او يستعمله المتظاهرون ويقوم الفتيات والفتيان على تبويب هذه المواد وتوزيعها لمن يطلبها (مجانا بالطبع) في اي وقت.. وانطباع ثالث منظر يثلج الصدر، ففي الصباح الباكر ينتشر المعتصمون والمعتصمات ليجمعوا المهملات في الاكياس حتى لترى الساحة والحديقة بعد ساعات قليلة نظيفة تماماً وتأتي سيارات القمامة لنقلها دون عناء..
وبعد.. أذكر الآن أن أول مظاهرة خضتها في حياتي كانت تأييداً (!) لثورة رشيد عالي الكيلاني ( 1941 ) حين كنت في التاسعة من عمري وقد خرجت منها بجروح أليمة في ركبتيّ، أما مظاهرات ما بعد الثمانين فكانت (ربما) بشارة الربيع التركي.. وخرجت منها سالماً !