تمكين ديمقراطي وتكميم إعلامي!
في البدء، أتفق مع العديد من الأردنيين بأن بعض المواقع الإلكترونية الإخبارية التي انتشرت أخيرا كالنار في الهشيم، تفتقر إلى الحد الأدنى من المهنية؛ تمارس اغتيال الشخصية، وتبتز العباد للفوز بإعلانات، وتضلل الرأي العام من خلال تلفيق أخبار وبث اشاعات، كما تُلحق العار بكل شريف ينتمي إلى مهنة المتاعب.
لكن حل هذه التحدّيات المصيرية لا يتأتّى بجرّة قلم تؤدي إلى حجب 292 موقعا إلكترونيا لأنها لم تسجّل لدى دائرة المطبوعات والنشر، وفق قانون المطبوعات والنشر المعدل لسنة 2012؛ ذلك القانون المتخلف الذي أساء إلى صورة الأردن، وساهم في تراجع ترتيبه على مؤشرات الحريات الصحفية وحقوق الإنسان والشفافية.
إصلاح الخلل في هذا القطاع يستوجب مراجعة حقيقية للتشريعات التي تفرض قيودا على حرية الإعلام، وعلى رأسها المطبوعات والنشر، وضمان حق الحصول على المعلومات، وحماية أسرار ووثائق الدولة، ومحكمة أمن الدولة، فضلا عن العقوبات المتعلقة بالقدح والذم والتشهير. ويجب موازاة ذلك بتسريع إجراءات التقاضي، وتحصين المحاكم من تدخلات السياسيين.
جزء من العلاج يكمن أيضا في نقابة الصحفيين الأردنيين التي تحتكر ترخيص كل من يزاول مهنة الصحافة، بحسب القانون السائد. إذ ينتظر منها التحرك فورا لتنفيذ وعودها المتكررة بتغيير أسس العضوية المجحفة، وفتح الطريق أمام انضمام إعلاميين وفنيين من غير عصبة العاملين في الصحف التقليدية والتلفزيون الرسمي ووكالة الأنباء "بترا". وفوق ذلك، يجب وقف التدخلات الرسمية، المباشرة وغير المباشرة، في وسائل الاعلام، وبيع حصص مؤسسة الضمان الاجتماعي في صحيفتي "الرأي" و"الدستور".
كذلك، يأتي المَخْرَج عبر تذليل العقبات البيروقراطية أمام كل مجموعة إعلامية حاولت أو تحاول تأسيس جمعية خاصة بها للدفاع عن حقوقها، وتوفير مزايا خارج إطار النقابة. ففي دول العالم الديمقراطية، لا يجبر الصحفي على أن يكون عضوا في نقابة رسمية حتى يكتسب صفة "صحفي"، بل يختار الانضمام طوعيا إلى نقابة توفر له مزايا وظيفية وتقاعدية وتدريبية.
لا بد من ترك أمر تنظيم عمل المواقع الإخبارية الإلكترونية لأصحابها، والسماح لهم بتأسيس اتحاد والاتفاق على ميثاق شرف ملزم للجميع تحت طائلة الفصل، وليس من خلال الإصرار على أن يكون رئيس تحرير الموقع عضوا في نقابة الصحفيين، ويمتلك خبرة حدّها الأدنى خمس سنوات.
لكن، وللأسف، فإن الطريقة المعيبة والمفاجئة التي انتهجتها الحكومة مساء الاثنين الماضي، بفرض قرار حجب المواقع الإخبارية غير المرخصة، أفرغت مضمون المبررات الرسمية التي رافقت عملية اغتيال حرية الإعلام بدم بارد. كما رفعت منسوب الشكوك المزمنة حيال صدقية نوايا الإصلاحات. بل فتحت هذه الطريقة الباب مجددا أمام جدل واسع حول كيفية ردم الهوة بين خطاب الملك الإصلاحي الداعم للتحول الديمقراطي في دولة المؤسسات والقانون، وبين مواقف الحكومة المناقضة لهذا التوجه، من خلال فرض مزيد من التضييق على حرية التعبير، المصانة في الدستور، في عصر الثورة الرقمية والإعلام البديل.
قرار الحجب مثّل ضربة أخرى لرؤية التحديث الملكية. وقد صدر في الوقت الذي كان فيه الملك عبدالله الثاني يرعى حفل إطلاق "برنامج التمكين الديمقراطي"، ويشاهد "سكيتشا" مسرحيا إشكاليا جريئا، قدّمه شباب من سحاب، دانوا من خلاله الفساد والمفسدين، وانتقدوا تغييب الحريات وفشل الدولة في توفير فرص عمل، قبل أن يخلصوا إلى أن الحوار وقبول الرأي الآخر هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص.
كما جاء قرار الحجب بعد يومين على نشر الملك ورقته النقاشية الرابعة، والرامية إلى تعزيز المشاركة السياسية وتفعيل مبدأ المواطنة، بحيث يكون المواطن شريكا في اتخاذ القرار.
ومن حقنا بعد ذلك أن نسأل عن طريقة "سلق" القرارات الرسمية ورسم السياسات؟
النتيجة الأسوأ لهذا القرار المبيّت –على يبدو- أنه ساهم في تعميق أزمة الثقة المستفحلة بين السلطة والشارع، بعد أن تضعضعت بسبب سياسات المراوغة والإصرار على الدوران داخل حلقات مفرغة، بهدف شراء الوقت وتطويع الأمر الواقع والتغني بالإصلاحات.
والأسوأ من ذلك أنه عكس عقلية بوليسية تأصلت مع مرور الوقت لتكميم حق التعبير في زمن التغيير، والإصرار على فرض إصلاحات سياسية على قد المقاس المرغوب، بدون التشاور مع الشركاء والمعنيين لضمان حد أدنى من التوافق الشعبي. قبل ذلك، كانت مسرحية الانتخابات التشريعية والحكومة البرلمانية. وغداً هناك مسلسل الانتخابات البلدية، وبعده –ربما- حجب صفحات "فيسبوك"، ومنع تداول "تويتر".
القرار مُرِّر بطريقة مستفزة لمشاعر الناس. وقد نسي رئيس الوزراء، د. عبدالله النسور، وعوده المتكررة بتنفيذ الاستراتيجية الإعلامية، بما في ذلك الفصل الرابع منها، والذي خُصص للإعلام الالكتروني. فضلا عن إقراره بأنه لم يعد للحكومات سلطة على كبح حرية الإعلام وضبط إيقاعه في عصر الإنترنت، بل يُترك الأمر للمشاهد والقارئ حتى يميز الغث من السمين.
تراجع الرئيس عن روح الاستراتيجية، وبخاصة البند المتعلق بـ"تشجيع المواقع الإعلامية على إنشاء سجل وطني للصحافة الإلكترونية، من خلال التسجيل في وزارة الصناعة والتجارة أو في سجل خاص بنقابة الصحفيين، بما يحدّد هوية الموقع ويحافظ على حقوق الملكية الفكرية".
وتناسى د. النسور ربما أن الاستراتيجية تتحدث عن تسجيل الموقع الإخباري الإلكتروني وليس ترخيصه؛ وأنها تتحدث عن اعتراف الجهات الرسمية بالمواقع المسجلة كجزء من الإعلام الوطني في مختلف التعاملات الرسمية المتعلقة بالحصول على المعلومات، وقضايا الحريات العامة، والدعوات إلى المؤتمرات الصحفية والمناسبات الوطنية.
الرئيس تراجع أيضا عن وعوده أمام الملتقى الثاني والستين لمعهد الصحافة العالمي، والذي انعقد في عمان قبل أسبوعين، حين التزم بتعديل قانون المطبوعات والنشر استجابة لمطالبات نيابية. كما تراجع عن وعوده بأنه مع تجميد إنفاذ قانون المطبوعات والنشر، وعدم اتخاذ أي إجراءات ضد المواقع الإلكترونية التي لم ترخص.
قرار الحجب سؤيشر إلى حملة تقييد الحريات والإجهاز على السلطة الرابعة، وما تبقى من شهود لها على الساحة في زمن الإعلام المرعوب (العام وغالبية الخاص)، في وقت تستعد فيه الحكومة لرفع أسعار الكهرباء، وفرض حملة لاسترجاع هيبة الدولة وسط المجهول القادم من الغرب والشمال، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، مع شكاوى من تدني الخدمات العامة.
كما أن القرار قد يحوّل أصحاب المواقع المحجوبة وقراءهم المقهورين إلى خبراء قرصنة في عالم البرمجيات، للتحايل على آلية الحجب. إذ بدأ بعض المواقع المحجوبة بتحميل الأخبار والمعلومات على منصات بديلة، وإرشاد متابعيها إلى كيفية متابعتها على صفحات "فيسبوك" وغيره.
هذا القرار لطّخ سمعة الأردن، وقرّبه أكثر من دائرة نادي الدول المعادية للحريات الإعلامية التي تراقب الإنترنت، مثل السعودية والصين.
ويبدو أن حكومتنا "الرشيدة" نسيت أن حرية تداول المعلومات على الإنترنت تسمح لأي شخص خارج حدود الدول التي تفعّل نظام حجب المواقع الإلكترونية، بمتابعة المواقع المحجوبة داخليا؛ كما يمكن الدخول إليها في دول الحجب من خلال برامج بديلة.
التاريخ يكرّر نفسه. لكن العابرين في التاريخ ينسون أن الثورة الرقمية لن تسعف أي مسؤول يفكّر في الحجر على عقول الشعب، وفي منع السلطة الرابعة من ممارسة دورها، وحجب حرية التعبير والإعلام عن المواطنين.