ثقوب في الذاكرة



د. سليمان عربيات
كلما حاولت أن أكتب في موضوع ما، أقع في دوامة دقة اختيار المعنى اللغوي لمفردات العنوان؛ و هذا يحدث دائما مع استثناءات بسيطة، و هو ما حدث في هذه المداخلة عندما رحت أتجول في المعجم ؛ الذي اعتبره صديقي الدائم عندما أطلب مساعدة لغوية، فهو قريب و سهل الاستعمال و كاف للوصول إلى الهدف في وقت قياسي. لم أطل الوقوف عند الكلمة "ثقب” و جمعها ثقوب و هي الخرق، و الكلمة الذاكرة؛ و هي قدرة الإنسان (النفس) على الاحتفاظ بالتجارب السابقة و استعادتها (استرجاعها).

أنا أمام مفردتين "ثقوب و الذاكرة” و كأنني أعترف بأن ثقوبا في ذاكرتي، ولكن مساحتها والقدرة على استعادتها هما موضع الاختبار. قرأت الكثير حول تقوية الذاكرة و إنعاشها و تبعت النصائح التي توصل إليها العلماء في هذا الشأن, و مثال ذلك قدرتي على حفظ الشعر, حتى أنني نجحت في حفظ الشعر البدوي على خلاف أيام الصبا والشباب. و عندما تهرب أو تغيب الأسماء والمفردات في بحور الذاكرة الغابرة, أعاندها حتى تعود إلى مجالها الطبيعي. و كنت أعتبر سلوكي هذا محاولة علمية لرتق (إصلاح) الثقوب التي أحدثها الزمن على امتداد العمر و رفض الاستسلام لها أو القبول بتداعياتها.

راودتني وساوس حول تطور مساحة الثقوب(في أوزون فضاء الدماغ) إلى ما يمكن أن نسميه "الزهايمر” و تداعياته. حضرت أفلاما أجنبية جادة حول المرض, و حمدت الله أنني أبعد ما أكون عنه. 

صديقي الفنان عادل إمام, زميل الدراسة في كلية الزراعة في جامعة القاهرة, ظهر في فيلم "الزهايمر” و كنت سعيدا, إذْ اعتقدت انه عالج هذه المسألة بصورة علمية, و بخاصة أنه من جيلي, فإذا بالفيلم لا يخرج عن كونه كوميديا تضفي عليه مزيداً من البهجة و القبول من المتلقين.

لا يمكن الإنكار أن في كل ذاكرة, ثقوبا تختلف في مساحتها و شدتها من شخص لآخر, و يمكن رتقها أو التعايش معها. توصلت إلى نتيجة مفادها, أننا لا نستطيع استذكار كل تجاربنا و لكن عندما نقع في أحداث مشابهة أو يساعدنا شخص على استعادتها نجد أننا نملك القدرة على تخزينها من جديد ضمن برنامج افتراضي. عندما بدأت في كتابة "سيرتي الذاتية” معتمدا في جزء منها على الذاكرة وجدت فيما بعد أن هناك ثقوبا أو فجوات, عملت على إصلاحها و دمجها مع تسلسل الأحداث في ذاكرتي. و توصلت إلى درس مفاده أن الثقوب لا يمكن أن تكون حقيقية إلا في حالة المعاناة من أمراض أعرف منها "الزهايمر” و في هذه الحالة لا يمكن إعادة الثقوب إلى وضعها الطبيعي "بالرتق” لأن ما يحصل بالفعل هو مثل إصلاحها بخيوط من نسيج العنكبوت.

أتجنب قدر المستطاع, أن أنفي وجود ثقوب في الذاكرة لدى معظم الناس, و بخاصة إذا كانوا مهيئين للوقوع في حالة الوهم, و عاجزين عن المواجهة و فهم تعقيدات هذه الحالة. قد يلعب الوضع الثقافي أو المعنوي أو الصحي أو النفسي للأشخاص, دورا هاما في انجاز المهمة, فهناك علاقة طردية بين هذه المتغيرات المستقلة والمتغير التابع وهو الثقب أو الثقوب. و لذلك فان الطبيب في البلدان المتقدمة يعامل مريضه في منتهى الصراحة, بينما في بلداننا نجده يتردد كثيرا في مصارحة مريضه عن طبيعة مرضه, و يكون المريض آخر من يعلم وربما يرحل دون أن يعرف السبب.

إن من حق الناس أن تقلق بخصوص المستقبل المتعلق بأمنها النفسي و الاجتماعي و الصحي, و هاجسهم في ذلك الخوف أن يتطور إلى وسواس أو وجع حسي و مادي أو إلى مرض دائم في الجسد و النفس. علينا أن لا نتردد في مقاتلة أعدائنا في أجسادنا و نفوسنا و يكون ذلك بمعرفة كل شيء عنهم و عن الخير و الشر في داخلنا أو في داخلهم.