: الزرقاء التي لم تغادرني
لكأنها لؤلؤة مفقودة تجدها ، كلمة سر تحلها حين تحدثك عنها الذكريات وأنت قريب منها لكن لا تلمسها كما كنت تفعل وانت في حضنها تكبران ، أنت وهي معاً. تغادرها في الثامنة عشرة صغيراً وتظل هي تكبر وتتغير وتزداد عدداً وشوارع وهموماً و.. وكأن الزرقاء ليست الزرقاء. زرقاؤك وزرقاء أبناء جيلك وبنات صباك المبكر.
حينها ، كانت هي صبية. خصرها نحيل جميل ، بين السيل والمعسكر. ليست طويلة وليست قصيرة قدماها تغتسلان بماء السيل ، الذي كان يجري كسمفونية لا تتوقف. لم تكن الاوتار قد تكسرت بعد على صخور البُعد. رأسها كان حاووز ماء يسقيها وشعرها ينسدل على الغويرية شرقاً ومشارف السخنة غرباُ.
وبين جهاتها الاربع كانت تحضن ابناءها بحنان أم ، سواء أولئك الذين ولدوا من رحمها أو الذين جاؤوا اليها من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب ، من المدن البعيدة عن العاصمة والقرى التي كانت تبحث عن مكان لها في المدينة القريبة من عمان أو جاؤوها من المدن والقرى ليسكنوا فيها وتسكن إليهم. يذوب الجميع فيها وتذوب فيهم كقطعة شوكولا من مكونات طبيعية ومذاق خاص.
كنا نسمي الضواحي حارات وفي القلب بضعة شوارع أجملها "السعادة" شارع السعادة. ربما سموه كذلك لأن الكل كان فيها سعيداً ببراءة ، دافئاً بحنان. الكل أهل .لا يضيع فيها غريب ولا يجوع قريب.
كانت المساجد قرب الكنائس ، ودور السينما قرب النوادي الاجتماعية ، سينما النصر وسلوى والحمراء وركس التي كانت التذكرة فيها بثلاثة قروش ونصف القرش لأنها الأبعد. النادي القوقازي ونادي المخيم. كان الكل رياضياً ومنفتحاً ومتديناً باعتدال. وكانوا جميعاً مثقفين بالفطرة ، تعدديين بالتكوين الأساسي لمدينتهم. والمتميزون ثقافياُ منهم أسسوا نادي اسرة القلم. وحينها كان يخيل اليك أن تولستوي وتشيخوف وشكسبير وابن عربي والعقاد وطه حسين وغيرهم مروا من الزرقاء أو أن أحدهم يجلس على مقهى الكوكب او يتنزه على ضفاف السيل يأكل الخس في عصاري الصيف.
تظل في القلب اينما تنقل الجسد. ازورها بين الحين والآخر لأراني هناك. أسير من جناعة الى الثانوية صعوداً ونزولاً. لا تتعب قدماي ولا رأسي مثقل بغير الدروس والدراسة وبالمعلمين الذين كانوا أشداء دون قسوة ، حنونين بلا ميوعة.
وفي المساء تتكون الزرقاء على مهلها. أصدقاء المدرسة جماعات في احد النوادي وفي الملاعب أو دور السينما. كان يشبهون بعضهم ويحبون بعضهم حتى أضحت لهم نفس الملامح ونفس اللهجة الزرقاوية.
أمس زرتها ، مر الشريط امامي.رأيت نشأت مطر وقاسم الجغبير وداود البوريني وخليل مبيضين ومحمد ابو الهيجاء وحسين العموش ومحمد خير مسافر وعلي الشيشاني و ابراهيم صبيح ورجب السقيري و آخرين غيرهم.تربينا معا وتعلمنا معا.يا الهي كم كنا نشبهنا ونحبنا ، شممت رائحتها ، مررت من أمام دكاكين ومكتبات ، هي ذاتها الشوارع. إمتلأت بالناس لكن بقيت ذات الملامح وحركة الأقدام وبهجة الصوت.
رأيتني هناك وودت لو ابقى ، لو بقيت ، لو بقي العالم بين المعسكر والسيل وسكة الحديد.. الحنون،.