تحليل سياسيّ طريف!


مع استعادة الجيش السوريّ مدينة القصير، التي كانت بمثابة الخليَّة العصبيَّة المركزيَّة (والرئة) للتمرّد متعدِّد الجنسيَّات المدعوم من الولايات المتَّحدة وحلف الأطلسيّ وتوابعهم في المنطقة، شنَّ عدد مِنْ مؤيِّدي هذا التمرّد، في بلادنا، هجمةً مضادَّة مكثَّفة اتَّسمت بالسطحيَّة والتعامل مع الناس كما لو كانوا محدودي التفكير وأمِّيّين سياسيّاً؛ لكنَّها اتَّسمَتْ، أيضاً، بشيءٍ من الطرافة. وتشتمل هذه الهجمة على فكرتين أساسيَّتين نعرضهما على النحو التالي:
1. إنَّ هزيمة التمرّد سببها وجود مؤامرة إسرائيليَّة – أمريكيَّة – روسيَّة – إيرانيَّة سريَّة تهدف إلى الحفاظ على النظام السوريّ لأنَّ في ذلك مصلحة "إسرائيليَّة"!
2. إنَّ الأسلحة المتطوِّرة التي أعطاها الروس مؤخَّراً لسوريَّة هي أسلحة مخصَّصة لضرب "الشعب السوريّ"، وقد ساهمتْ في ترجيح كفَّة النظام عسكريّاً!
نريد أنْ نُذكِّر هؤلاء، بدايةً، بكلامهم الكثير، قبل سنتين، عن عقليَّة المؤامرة والمهووسين بفكرة المؤامرة؛ فما الذي استجدّ، يا ترى، ليصبحوا، هم، الآن، مَنْ يروِّج فكرة المؤامرة ويستند إليها.. حتَّى إنْ بمضمون معاكس؟ وهذا مع أنَّه شتَّان بين فكرة المؤامرة، هذه، التي تحكم تفكيرهم الآن، وبين التحليل العلميّ الدقيق الذي يفرز الأصدقاء من الأعداء، ويكشف خطط الأعداء وترتيباتهم.
ولكي نكشف عيوب هذا الخطاب وتهافته، فسنسير مع منطقة الخاصّ حتَّى نهاياته القصوى. وهنا، بالتحديد، يظهر جانبه الطريف. وبناء عليه، نقول: نعم، "إسرائيل" والغرب وأتباعهم متمسِّكون بالنظام السوريّ، لأنَّه يصطفّ معهم في حلف معلن للحرب على قطر والسعوديَّة وغزَّة وحكومات "الإخوان" في مصر وتونس وتركيّا الأطلسيَّة؛ كما أنَّه وضع الجامعة العربيَّة في خدمة مخطَّطاتهم، والأموال النفطيَّة تحت تصرّفهم، وساند مساعيهم العدوانيَّة الاستعماريَّة في مجلس الأمن ليضعوا يدهم على حواضر الأمَّة العربيَّة ويستتبعوها؛ ثمَّ أنَّه هو مَنْ ذهب إلى واشنطن، منذ مدَّة قريبة، على رأس وفد من دول الجامعة العربيَّة، ليقدِّم للبيت الأبيض مبادرة "تبادل الأراضي" التي مِنْ شأنها إذا نفِّذتْ أنْ تشطب القضيَّة الفلسطينيَّة وتمهِّد للاعتراف بيهوديَّة "الدولة" الصهيونيَّة؛ وهو الذي يحتفظ في بلاده بسفير لـ"إسرائيل"، وهو الذي عقد اتِّفاقيَّات استسلاميَّة معها، وهو الذي يناصب المقاومة اللبنانيَّة العداء؛ بل يعتبرها عدوّه الأوَّل وليس "إسرائيل"؛ في حين أنَّ خصومه من الحكّام العرب هم مَنْ دعمها، ودعم المقاومة العراقيَّة، كذلك، ورفض إملاءات كولن باول الشهيرة؛ وهو مَنْ يواصل فرض الحصار على غزَّة، ويهدم الأنفاق الموصلة إليها ويغرقها بالمياه العادمة؛ وهو مَنْ أعطى التطمينات العلنيَّة، الواحد تلو الآخر، لـ"إسرائيل" (فلماذا، إذاً، نُتعب أنفسنا بالبحث عن الروابط الخفيَّة التي يزعم البعض أنَّها تربط بين خصومه وبين دول الأطلسيّ و"إسرائيل"؟). ويجب الانتباه، هنا، إلى أنَّ كلّ تلك التحالفات والعلاقات الوثيقة والتاريخيَّة التي تربط بين خصوم النظام السوريّ وبين الولايات المتَّحدة والغرب (و"إسرائيل"، بالمحصِّلة)، هي علاقات صوريَّة زائفة هدفها التغطية على العلاقات السريَّة الحقيقيَّة التي تربط بين الغرب (و"إسرائيل"، طبعاً) وبين سوريَّة.
فمَنْ هو، يا ترى، المسكون بعقليَّة المؤامرة؟
أمَّا بالنسبة للأسلحة الروسيَّة التي زُوِّدَتْ بها سوريَّة مؤخّراً؛ فهي فعلاً ضدَّ "الشعب السوريّ"؛ لأنَّ هذا الشعب يقيم نصفه الآن في سفن وبوارج حربيَّة في البحر الأبيض المتوسِّط، ويقيم نصفه الآخر في طائرات حربيَّة يُتوقع أنْ تهاجم النظام في أيَّة لحظة؛ لذلك، كانت الأسلحة التي سُلِّمَتْ لسوريَّة مكوَّنة، تحديداً، مِنْ صواريخ ياخونت المضادَّة للسفن والبوارج الحربيَّة، وصواريخ إس 300 المضادَّة للطائرات والصواريخ. وتوقيت قرار الروس تزويد سوريَّة بهذه الأسلحة بعد الضربة "الإسرائيليَّة" الأخيرة لها، مباشرةً، ليس سوى مصادفة؛ أمَّا معارضة "إسرائيل" لحصول سوريَّة على هذه الصواريخ، فليست إلا معارضة صوريَّة زائفة. وأكثر مِنْ ذلك، فلكي يعطي نتنياهو رأيه صدقيَّةً، ذهب إلى موسكو، وقام، هناك، بتمثيل دور مَنْ يحاول إقناع الروس بعدم إعطاء تلك الأسلحة لسوريَّة. وفي السياق ذاته، قام، أكثر مِنْ مرَّة، بضرب سوريَّة كلَّما شدَّد نظامها هجومه على المسلَّحين الذين يقاتلون ضدَّه.. وما ذلك إلا لخلط الأوراق وإعطاء انطباع زائف بأنَّ النظام السوريّ نظام وطنيّ ممانع ومقاوم.. إلخ.
فيا له مِنْ تحليل سياسيّ جدّيّ ما أبدعه!