عجز الرواتب وهيكلة القطاع العام
بصورة ملفتتة للنظر، بدأت تتردد منذ أيام في وسائل الاعلام الاردنية، ونقلا عن نظيراتها العربية والاجنبية، أخبار تتحدث عن ان الاردن يعيش مأزقا خطيرا بسبب تفاقم عجز الموازنة العامة، وأن الحكومة لم تؤمّــن حتى الان رواتب الجيش والموظفين المستحقة مع نهاية شهر آب القادم. ومما يلفت النظر أكثر أن أياً من الجهات المعنية بهذه الاخبار لم تبادر إلى نفيها أو تأكيدها، على الرغم من خطورة ما تؤشر إليه، وما ينعكس عنها، وفي ضوء التصريحات الرسمية التي تتحدث فعلا عن وجود ضائقة مالية.
فِـــعْـــليا، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر وجود الازمة الاقتصادية التي يعيشها الاردن، وبغض النظر عن الاسباب التي تقف وراءها. لكن مما لا شك فيه ان قضية العجز في رواتب الموظفين أمر لا يمكن تجاهله إذا أدركنا حجم السلبيات والمخاطر المتوقعة الناجمة عنه. فمن المعروف ان فاتورة الرواتب تشكل عبئا ثقيلا على الموازنة العامة للدولة، وقد تمت إدارة بند الرواتب بشكل خاطئ، من خلال ما سمي "برنامج هيكلة القطاع العام" الذي تولت مسؤوليته وزارة تطوير القطاع العام، ولم تكن له علاقة بمضمون كلمة الهيكلة، وإنما كان برنامجا لزيادة الرواتب، بلغت كلفته حتى اليوم ما لا يقل عن (465) مليون دينار سنويا. ومما يؤسف له أن وزارة تطوير القطاع العام في عهد حكومة دولة عون الخصاونة قد تجاهلت كل المعلومات التي قُـــدمت إليها والتي توضح ان الكلفة لن تقل عن (350) مليون دينار وليست ما بين (77 – 83) مليون دينار، وان احتمالية عدم القدرة على توفير الرواتب بهذه الصورة احتمالية عالية، وان الحكومة التي سبقتها كانت على أبواب تجميد المشروع بسبب ما سيرتبه على الخزينة العامة من مبالغ باهظة. لكن السعي وراء الشعبية من خلال الإصرار على تنفيذ الهيكلة وتنفيذها دون دراسة، قد أصم الآذان وأعمى العيون، فأدخلوا البلاد في نفق الهيكلة المظلم، الذي ما نزال نعيش تداعياته فيما نشهده من إضرابات واعتصامات، وآخرها اعتصام موظفي وزارة العدل، للمطالبة بتعديل العلاوات، وغير ذلك، وهو الأمر الذي اضطر وزارة التطوير في السابق إلى الاستجابة لهذه الاضرابات طلبا "للستيرة" وخوفا من انكشاف الخطأ، وسعيا لإسكات الأصوات المحتجة ولعل ذلك خير دليل على سوء ادارة برنامج الهيكلة. فعلاوات المؤسسات التي زادت من الاعباء المالية المترتبة على الخزينة العامة وضعت بشكل اجتهادي دون اخضاعها لمعايير موضوعية علمية مقنعة، كما تم منح العلاوات للمسميات الوظيفية في الوقت الذي كان فيه الكثير من المؤسسات المستقلة، وحتى الكثير من الوزارات والمؤسسات الخاضعة لنظام الخدمة المدنية تفتقر إلى وجود الاوصاف الوظيفية لأن مستويات الوظائف لم تتقرر وفق اوصاف وظيفية دقيقة.
يضاف إلى ذلك قيام وزارة تطوير القطاع العام بتجاهل يوم 28/5/2011 كموعد نهائي لاعتماد المسميات الوظيفية وتمديد المدة، وبشكل يدعو الى الريبة، حتى تاريخ 31/12/2011 مما ساعد على تغيير المسميات الوظيفية لعدد من الموظفين، ومنحهم علاوات وتعويضات مالية ودون وجه حق، كما حدث في صندوق التنمية والتشغيل... إن ذلك بمجمله، مع ما استتبعه من مطالبات المتقاعدين المدنيين والعسكريين، أدى إلى أن تبلغ كلفة برنامج الهيكلة ما لا يقل عن (465) مليون دينار، وهي كلفة كان واضح مسبقا أنها ستحقق، وانه من الصعب تأمينها.
وإذا كانت موازنة الرواتب، كما تقول الاخبار، تعاني فعلا من عجز يصعب معه تأمين رواتب شهر آب القادم، فإنه يحق للجميع، وبخاصة الجهات الرقابية وفي طليعتها مجلس النواب، أن يتساءلوا عن الارقام التي كانت قد اتحفتنا بها وزارة تطوير القطاع العام حول حجم الوفورات الهائلة التي حققتها الهيكلة، والتي كان يتم إطلاقها كلما كان هناك تغيير او تعديل وزاري.
لقد سبق وأن اقترحتُ في مقالة نشرت على العديد من المواقع الالكترونية تحت عنوان (حديث في الهيكلة) بضرورة "ان تقوم جهات محايدة، وبعيدا عن تدخلات وزارة تطوير القطاع العام، بدراسة لتقييم نتائج عملية الهيكلة وأثرها على أداء المؤسسات المستقلة، وكذلك أثرها على مالية الدولة الأردنية" لأن المعلومات المتوافرة كانت تشير إلى أن خللا في موازنة الرواتب وشيك الوقوع نتيجة الهيكلة، التي لم تحظ برضا لا الموظفين ولا حتى الوزراء الذين أقروها.
أخيرا، ومن أجل معالجة التضخم المتزايد في أعداد العاملين في الجهاز الحكومي، وبالتالي معالجة الكلفة المتصاعدة لفاتورة الرواتب، أقترح:
1. إعادة النظر في سياسة التقاعد وبحيث يتم تخفيض عدد سنوات الخدمة في الجهاز الحكومي إلى (20) سنة كما كان الامر عليه سابقا، ولجميع العاملين في الدولة، بغض النظر عن متغيرات العمر، والموقع الوظيفي، والدرجة، والفئة، وأي اعتبارات أخرى. إن مثل هذا الإجراء سيؤدي إلى خفض أعداد العاملين، وتحقيق وفورات مالية من خلال التوقف عن صرف العلاوات وبدلات العمل الاضافي نتيجة الاحالات على التقاعد. كذلك، فإن الاحالة على التقاعد عند بلوغ الموظف (20) سنة من الخدمة ستتيح أمامه إمكانية واسعة لبدء حياة وظيفية ثانية سواء أكان بالعمل خارج البلاد، او العمل في القطاع الخاص داخل المملكة، أو البدء بمشروع عمل خاص. إن الحياة الوظيفية الثانية ستعود على المتقاعد بالعديد من الفوائد النفسية والمالية.
2. البدء بإدارة الموارد البشرية العاملة في القطاع الحكومي بشكل كفؤ وفاعل. فقد أشارت الدراسات التي أجريت في المملكة حول عبء العمل الى ان الموظف في القطاع العام يعمل فعليا ما بين 3.5 – 4 ساعات يوميا، في حين أنه يقضي عدد الساعات المتبقية بممارسة أنشطة لا علاقة لها بالعمل (انترنت، صحف، زيارات مكتبية، مغادرات خاصة، قهوة وشاي ...الخ.) وهذه الظاهرة ظاهرة ملموسة وبادية بوضوح. إن إدارة الموارد البشرية بشكل كفؤ وفاعل تتطلب العمل على تحليل جميع الوظائف الموجودة في القطاع العام (وأؤكد ضرورة ان يتم ذلك بشكل مهني احترافي من قبل متخصصين) ومن ثم تحديد عبء العمل لكل موظف فيما يتعلق بوظيفته، ليتم على أساس ذلك توزيع الموظفين على الوظائف بشكل علمي موضوعي محايد، واستغلال ساعات العمل الرسمي المطلوبة من كل موظف استغلالا كاملا، وبحيث يؤدي الموظف أكثر من عمل باعتبار أنه لا يستغل كامل ساعات الدوام الرسمي للقيام باعمال وظيفة واحدة، مما يعني عدم الاضطرار لزيادة أعداد العاملين في القطاع الحكومي، مما ينعكس إيجابا على خفض كلفة الرواتب والتعويضات.
3. البدء بعملية تخطيط الموارد البشرية في القطاع الحكومي، والتنبؤ بالاحتياجات التقديرية لكل وظيفة من الوظائف، ليس فقط على صعيد الكم (العدد) ولكن أيضا على صعيد المعرفة والبراعة والاحترافية، وبما يتطابق مع احتياجات التغير والتطور والتقلبات التي تشهدها البيئة الاردنية وكذلك البيئة العالمية. إن مثل هذا الاجراء سيعمل على ترشيد استخدام الموارد البشرية في القطاع الحكومي، وبالتالي ضبط فاتورة الرواتب. وسيعمل هذا الاجراء على توجيه مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات مجتمع نحو استحداث التخصصات المطلوبة لسوق العمل والتركيز على إكساب الطلبة المهارات المطلوبة.