قراءتان للتفاهم الروسي الأمريكي
تتفاوت التحليلات والمحاولات لفهم كنه ما حدث في موسكو من تفاهمات بين كيري والقادة الروس..النظام السوري وأنصاره يتحدثون عن «فوز روسي بالنقاط» سجّله الثنائي بوتين – لافروف على رئيس الدبلوماسية الأمريكية، فيما مصادر غربية وعربية تنفي ذلك جملة وتفصيلاً، بل وتتحدث عن بداية تخلٍ روسي عن الأسد، واستعدادٍ لمقايضة رأسه بمكاسب تجنيها موسكو في ملفات أخرى أو أوقات لاحقة.
الفريق الأول، يستند إلى جملة معطيات تعزز قراءته وتقديراته، منها على سبيل المثال، أن التفاهمات الأمريكية الروسية أظهرت المشتركات بين الجانبين، وفي المقدمة منها ترجيح الحل السياسي، التصدي لـ»خطر الإرهاب الإسلامي»، وحفظ سوريا دولة موحدة بمؤسساتها، والحديث عن «حكومة انتقالية» من النظام والمعارضة، ودعوة الطرفين لمؤتمر دولي «جنيف 2»، وغياب أية إشارة يفهم منها مطالبة الأسد بالتنحي..وهذه عناوين شكلت على مدى العامين الفائتين، جوهر المقاربة الروسية.ويرى أصحاب هذه القراءة، أن الأسد باقٍ في مكانه، أقله حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد عام أو أكثر قليلاً، وأن الحكومة الانتقالية ستتمتع بصلاحيات «كافية» كما ورد، وهي أقل من صلاحيات «كاملة» كما كان يطالب الأمريكيون وحلفاؤهم.
الفريق الثاني، يرى أن مصير الأسد ما زال عالقاً، ويستندون إلى جملة من «التوضيحات» الأمريكية التي صدرت عقب محادثات موسكو، ومنها أن ليس للأسد دور في صنع مستقبل سوريا، وأنه جزء من المشكلة وليس جزءا من الحل، وأن واشنطن لم تغير ولم تبدّل في مواقفها..ويعتقدون أن موسكو تريد الأسد حتى الانتخابات إياها، وإن بقدر أقل من الصلاحيات والمسؤوليات.
كثيرون لخّصوا نتائج محادثات موسكو بالقول، أن جديدها هو توافق العملاقين على اعتبار تنحي الأسد، حلقة في سلسلة الحل السياسي للأزمة، وليس شرطاً لبدئها..أي أن عملية الانتقال السياسي التي ظلت مشروطة برحيل الأسد، قد تنتهي بالتنحي (وقد لا تنتهي إلى هكذا نتيجة أيضاً)، على أن تبدأ عملية سحب صلاحيات الرئيس ونقلها للحكومة الانتقالية منذ اليوم الأول لتشكيلها.
مثل هذا التوافق يسمح على الأقل ببدء عملية انتقال سياسي في سوريا، بيد أنه ليس كافياً لضمان رسوّها على شاطئ الأمان..فثمة تفاصيل كثيرة ما زالت عالقة، تختبئ وراءها كافة شياطين الأرض والسماء..لكن إطلاق العملية السياسية بحد ذاته، من شأنه أن يدفع إلى الخلف، بمنسوب العنف والقتل والتدمير، ويفتح الباب رحباً للشروع في معالجة الجوانب الإنسانية، وقد تنطلق على هامش هذه العملية، ديناميكات، تأخذها إلى حيث لا ينتظر أحدٌ أو يتوقع.
عند الانتخابات المقبلة، سيكون قد مضى على ترؤس الأسد لبلاده، أربعة عشر عاماً..هذه فترة أطول من تحتملها أية ديمقراطية في العالم، ناشئة أو راسخة..اللهم إلا إذا كانت الديمقراطية مطلوبة كآلية شكلية (ورقة توت)، لتسويق التمديد والتجديد وتسويغ التوريث..أما إذا كان المطلوب حفظ سوريا وضمان انتقال ديمقراطي سياسي، فما الذي يمنع الأسد من أن يعلن عدم ترشحه في الانتخابات المقبلة، على أن يقوم الحزب الحاكم (الذي كان وما يزال قائد الدولة والمجتمع) بترشيح من يختاره لخوض غمار المنافسة الحرة على معقد الرئاسة..ما الذي يمنع تجديد النظام من داخله، إن كانت هذه هي «الوصفة» التي توصلت إليها واشنطن وموسكو؟..هل يتعين على سوريا أن تخوض إلى ما لا نهاية له، معركة «رجل واحد»؟..هل يستحق الأمر كل هذا العناء والتضحيات؟.هل يمكن اختصار الدولة والنظام والحزب والطائفة والعائلة والمقاومة والممانعة، برجل واحد؟..هل يصبح بقاؤه جالساً على مقعده معياراً أوحد للنصر أو الهزيمة؟.
قد يُقال أن الصراع في سوريا، أو بالأحرى عليها، هو صراع على «موقع سوريا بين المحاور والتحالفات» التي تشق المنطقة طولاً وعرضاً..حسناً لنسلم بذلك، لا لغايات النقاش، بل لأن الفكرة تنطوي على قدر كبير من الجدية والوجاهة كذلك..لكن، هل من الصحيح و»الحكيم» أن يكون تموضع سوريا في «محور المقاومة والممانعة» رهن بإرادة «رجل واحد» واختياره؟..أين النظام والدولة والحزب والمؤسسات والأجهزة، هل لها رأي في تقرير خيارات سوريا أم أنها ليست سوى «كومبارس» وظيفته التصفيق لخطابات الرئيس وخياراته؟..هل لعاقل أن يصدق أن الأسد بات «حجر سنمار» النظام والدولة في سوريا، إن انتزع من مكانه انهار البناء بالكامل، وعلى رؤوس أصحابه وساكنيه؟..أي تضليل هذا؟..وإن كان الحال كذلك فعلاً، فبئس «الإصلاح» الذي يتحدثون عنه صبح مساء..وبئس الرهان على استراتيجية «خيار المقاومة» إن كانت استراتيجية كهذه، مرهونة بـإرادة رجل واحد، أياً كان هذا الرجل.