سوريا تدافع عن المستقبل العربي

لا يمكن ان تنبئ سلسلة الحماقات الحربية السياسية الاميركية، على مدى الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بان اميركا يمكن ان تكون محصنة من دون تدخل عسكري بشكل مباشر في سوريا.

ابتداءً من حرب كوريا في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي الى حرب فيتنام فحروب كوبا وغرانادا والعراق وأفغانستان، لم تستطع اميركا ان تحقق انتصاراً عسكرياً واحداً حاسماً. مع ذلك، ظلت تختلق الاسباب للتدخل العسكري بكل قوتها العسكرية في هذه البلدان، بعيداً تماماً عن أمنها القومي وحتى عن مصالحها المباشرة.

بدأت اميركا تدرك ان عليها ان تحجم عن التدخل العسكري في مواجهة سوريا. وربما تكون قد اعتقدت ان التردد امام سوريا يمثل في حد ذاته إستراتيجية يمكن ان تحقق نجاحاً سياسياً ينتهي بتحطيم سوريا والارادة السورية. بالتالي لا تزال اميركا تبدي امتناعاً، وتخفي هذا الامتناع احياناً، عن اتخاذ قرار بإرسال قواتها المسلحة للتدخل ضد النظام الحاكم في سوريا، بعد أكثر من سنتين من استعصاء سوريا على مجموعات كثيرة من التنظيمات الارهابية التي تحاول تحطيم كل ما يمكنها تحطيمه من سوريا. علماً ان اميركا نجحت في الاعتماد على قوات حلف الاطلسي في التدخل العسكري في ليبيا وإسقاط النظام الحاكم فيها، وإن لم تستطع ان تحقق استقرارا حقيقيا للنظام الذي اقامته هناك بمساعدات عربية، مالية وعسكرية.

لهذا لا بد من التساؤل لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة ان تتخذ قراراً بأن تحاول ان تكرر في سوريا تدخل حلف الاطلسي عسكرياً بمساندة عربية مالية وعسكرية؟

من الواضح ان هذا السؤال راود إسرائيل، وأن إسرائيل تحاول اقناع الولايات المتحدة بأن على اميركا ان تتدخل مباشرة في سوريا او ان تترك لحلف الاطلسي القيام بهذه المهمة. وتتسلح اسرائيل هذه المرة بتأييد ودعم من النظم العربية التي تشارك اميركا وتشارك إسرائيل هدف إسقاط سوريا.

ومن الواضح ايضا ان النظم العربية توافق اسرائيل على هذا الهدف، بل ان بعضها ينظر الى دور اسرائيل على انه دور لا غنى عنه للبرهنة على ان صمود سوريا امام الحرب التي تشن ضدها، لا يمكن ان يترك ليمارس البرهنة لجماهير الشعب العربي من المحيط الى الخليج، على ان باستطاعة قوة عربية ان تواجه حرباً عالمية تشن ضدها.

نحن امام موقف بالغ التعقيد لا يبدو فيه ان القوى المجتمعة ضد سوريا قادرة على إجبارها على الركوع او مجرد الخضوع لارادة «عالمية» تقودها الولايات المتحدة. ويحدث هذا على الرغم من ان العالم الغربي، وضمنه النظم العربية، مع استثناءات قليلة، بدأ منذ أكثر من عامين في شن حملة أكاذيب شنعاء، وأن الغرب لا يتدخل وان اسرائيل تتخذ موقف المتفرج وأن التنظيمات الارهابية القادمة الى سوريا من مختلف الانحاء التي يسيطر عليها الارهاب الدولي انما تحارب وحدها، وتكاد تكون غير مسلحة لأن النظم العربية والغربية تنفي انها تسلح هؤلاء ليحاربوا سوريا. لكن هذه الاكاذيب المترابطة المتسلسلة لا تكاد تصمد في مواجهة الصمود السوري. والآن يأتي التدخل الاسرائيلي ضد سوريا تشجيعاً لأميركا والاطلسي والتنظيمات الارهابية ليلغي وينفي هذه الاكاذيب. ان اسرائيل تحاول ان تعوض عن، وأن تداري في الوقت نفسه، الاختلافات التي تمزق التنظيمات المتدخلة في سوريا.

فإن الاحداث الاخيرة في سوريا قد كشفت عن قوة سوريا في مواجهة الاخطار الخارجية. التنظيمات الارهابية اثبتت انها غير قادرة على اخضاع مدينة سورية واحدة. لقد استطاعت فقط ان تغزو بعض الاحياء وان تشرد سكانها. واسرائيل تتدخل لتبرهن لهذه التنظيمات انها لا تتمتع فقط بالتسليح العربي والغربي والتمويل العربي المستمر، بل تتمتع بدعم عسكري اسرائيلي يعوض عن التردد الاميركي. إن اسرائيل تخشى ما تلمحه من بوادر انسحاب لما يسمى المعارضة السورية. وتحاول ان تثبت للولايات المتحدة ان مصلحة اسرائيل لا تكتفي بالدعم الغربي والعربي بالسلاح والمال للقوى التي تحارب سوريا. ان مصلحة اسرائيل تقتضي المساهمة المباشرة في تقويض سوريا.
وهنا يبزغ السؤال اين مصر؟
حاول نظام حكم «الاخوان المسلمين» في مصر ان يثبت انه ليس غائباً، فبدأ مناصراً لـ«الاخوان» في سوريا اعتقادا بأن لهم الكلمة العليا في الصراع السوري. ولم يلبث النظام المصري ان تبين انه لا يستطيع ان يواصل هذا الموقف الخائب، فواصل «المشاورات» مع القادة والمسؤولين الاميركيين، موضحاً انه يقع تحت ضغط إيراني مباشر وغير مباشر لاتخاذ موقف يرجح فكرة البحث عن حل سلمي للأزمة السورية. وتصور النظام المصري انه يتقابل مع الموقف الاميركي في هذه الدعوة. ولكن تصرفات اسرائيل العدوانية ضد سوريا برهنت على خطأ هذا النظام. برهنت على ان اسرائيل لا تكتفي بموقف مصري من هذا القبيل يكتفي بالدعوة الى حل سلمي.

لقد اسهمت الهجمات الجوية الاسرائيلية على سوريا في تنبيه النظام الاخواني المصري على انه لا يستطيع الزعم بأنه على وفاق مع الولايات المتحدة وإسرائيل اذا استمر في النأي بنفسه عن الازمة السورية. بالقدر نفسه فإن الضغوط الاميركية خلال المحادثات المتوالية بين القادة المصريين والجنرالات الاميركيين نبهت النظام الاخواني المصري إلى انه غير مسموح لمصر بأن تتخذ موقف النأي بالنفس عن الازمة السورية، وأن المطلوب هو الوقوف الى جانب ما يضمن الامن الاسرائيلي في المنطقة، وهو الموقف الاميركي نفسه لا أكثر ولا أقل.

لكن النظام المصري وجد نفسه في موقف أشد حرجاً وهو يلمح بوادر تراجع قوى «المعارضة السورية» على الارض وبوادر تراجع القوى العربية الداعمة لهذه المعارضة، متمثلة في السعودية وقطر والامارات. ذلك ان هذه القوى قد انفقت مالاً ودفعت ثمن التسليح للتنظيمات الارهابية المحاربة في سوريا على مدى 27 شهرا من دون ان تحصل على نتيجة ملموسة. وبطبيعة الحال، فانها لا تمانع في الاستمرار شرط ان يبدو في الافق بصيص دليل على ان ثمة نتائج متوقعة. بالاضافة الى هذا فإن افتضاح دور اسرائيل ضد سوريا في الاسابيع الاخيرة خاصة، اسهم في فضح مواقف النظم العربية وارتباطها بموقف اسرائيل ضد سوريا. ويزيد هذا من حرج النظام الاخواني الحاكم في مصر الذي يعاني اكثر من اي نظام عربي آخر من تحدي القوى الجماهيرية والتنظيمات السياسية التي تبدو مصممة على إنهاء حكم «الاخوان المسلمين» في مصر.
ان الارتباك يبدو بوضوح سمة اساسية لما تعاني منه كل القوى التي تقف ضد سوريا ونظامها. ليس فقط لأن سوريا استطاعت ان تبرهن على قوتها وتماسكها في مواجهة القوى المتدخلة ضدها، انما لأن هذه القوى المعادية لسوريا، ابتداءً من اسرائيل والولايات المتحدة وصولا الى النظم العربية التي تؤدي دور الانفاق على هذه الحرب العالمية ضد سوريا، أظهرت في الآونة الاخيرة قدراً من الارتباك، لم يبدُ من قبل، في هذه المواجهة، ولم يبدُ من قبل في تجربة ليبيا. ويبدو الارتباك أكثر وضوحا على موقف النظام المصري وهو يشهد كفة الميزان تميل ـ ربما للمرة الاولى ـ نحو تأييد موقف سوريا ضد المتدخلين بالسلاح ضدها وضد سياساتها القومية. ان جماهير الشعب المصري بدأت تتقدم، ولا نقول تتراجع، نحو موقف ادق فهماً لطبيعة الحرب الدائرة في سوريا باعتبارها خطراً ليس على سوريا وحدها، انما على أقطار الوطن العربي كله بما فيها مصر. ان التساؤلات التي تسمع في تجمعات المصريين حيثما كانوا، تقدم ادلة كافية على ان تدخل اسرائيل في الازمة السورية كان كافياً لتقديم الدليل على ان مصر ـ تحت تأثير حكم «الاخوان المسلمين» بالدرجة الاولى، يعطي ما يكفي من الأدلة على ان سوريا تواجه مؤامرة كبرى تصب نتائجها في النهاية في مصلحة اسرائيل وليس في مصلحة سوريا او اي من الأقطار العربية.

إن اي تصور بأن القوى الغربية قادرة على خوض صراع الارادات من اجل فرض اسرائيل المتوسعة والى جانبها فلسطين مستسلمة للقوة الاسرائيلية والسياسة الاسرائيلية - الاميركية يغفل، بدون وجه حق، حقيقة وعي الجماهير بهذا المخطط الذي بدأ في الشرق الاوسط لإخضاع مصر وسوريا وليبيا واليمن لاتجاهات بلدان الخليج الغنية المستسلمة لإملاءات اميركية طوال الوقت لحملها على الانفاق على خطط ترمي في النهاية الى تثبيت قدرة اسرائيل.
ان لهجة انتصار سوريا على هذا المخطط الاسرائيلي - الاميركي ترتفع بسمات واضحة وواثقة، مشيرة الى ان وعي الجماهير العربية يستعيد قدرته على مواجهة اعداء الوجود العربي ومقاومتهم تمهيداً لإلحاق الهزيمة بها المخطط.
 
السفير اللبنانية