الطائرة الطَّفِيليّة وردود الأفعال

د. رحيّل غرايبة

في مقالة أمس التي تناولت بها إنجاز جامعة الطفيلة التقنية الذي تمثل في صناعة طائرة من دون طيار تم إطلاقها في سماء الطفيلة، واستطاعت التحليق لمدة نصف ساعة تقريباً، هذه المقالة أثارت مجموعة من التعليقات المختلفة وعددا كبيرا من الاتصالات في غالبيتها الساحقة كانت ذات مضمون إيجابي تستحق الاحترام والتقدير والعناية.
أحد هذه الاتصالات كان من دولة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور معروف البخيت، الذي عبّر فيه عن تقديره لهذا الإنجاز، ولكن من قبيل الإنصاف أشار إلى تجربة ناجحة سابقة في هذا المجال نفسه كانت من إنجاز طلبة جامعة العلوم والتكنولوجيا عام 1995م، بالتعاون مع مركز التطوير في القوات المسلحة الأردنية، وكان دولته وقتذاك مديراً لهذا المركز، ثم تابع قائلاً: لقد انتقلت للعمل في موقع آخر، ولا أدري لِمَ توقف هذا المشروع.
وفي هذا السياق أردت من المقالة التعبير عن تقدير هذا الإنجاز واحترام هذا الجهد سواء كان من الجامعة المعنية أو الدكتور المشرف أو فريق الطلبة المشارك، من أجل تعزيز هذه الروح الإبداعية وتشجيع هذا الإنجاز الأردني المحلي لتكون خطوة أولى نحو خطوات أخرى أكثر تقدماً وأفضل إنجازاً وأعظم أثراً، وكذلك من أجل إشعال بذرة التنافس بين الطلاب والجامعات من أجل الإسهام في توجيه العقل العلمي نحو الإنتاج العلمي المتميز وتحويله إلى ثمرة عملية نافعة، وهذه بداية الطريق، ولكن في الوقت نفسه نكون في غاية السرور إذا تم اكتشاف مشروعات أخرى وجهود أخرى سابقة ولاحقة، فهذا يدعونا إلى مزيد من التفاؤل، بشرط الاستمرار في دعم هذه الجهود وتطويرها، وتنمية هذه المواهب ورعايتها وتحسين أدائها، والاستثمار في هذه العقول الوطنية نحو إيجاد صناعة أردنية محلية- فكرة وإنجازاً وانتاجاً.
ليست لدي معلومات عن طائرة جامعة العلوم والتكنولوجيا، ولكن منذ عام (95) وحتى الآن أين وصل هذا المشروع، ولِمَ تعرض للإهمال، ومن الذي يتحمل مسؤولية ما يترتب على هذا الإهمال من إحباط وفتور، ومن تهيئة العوامل لهروب الأدمغة وهجرتها إلى حيث الجهات التي تقدر الإبداع، وتبحث عن المواهب من أجل رعايتها والاستفادة منها في صناعتها وإنجازاتها الحضارية.
وفي هذه المناسبة اطلعت على دراسات وإحصاءات مرعبة تتحدث عن هجرة العقول والأدمغة العربية إلى الدول الغربية المتقدمة التي تحتضن العقول المبدعة والمواهب المتميزة في مختلف حقول المعرفة، وهناك بعض الأبحاث التي تتحدث عن شركات غربية مختصة منتشرة في معظم الدول النامية والفقيرة، للبحث عن العقول المتميزة التي تمتلك القدرة على الإبداع والاختراع، من أجل دفع نهضتها للأمام، ومن أجل الاستفادة من قدرتها على اكتشاف ما هو جديد.
من أعظم المصائب التي خلفتها الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة أنها لم تقم على رعاية المواهب المحلية، واحتضان العقول الإبداعية، إضافة إلى مصائب أخرى لا حصر لها ولا عد، بل عمدت إلى إيجاد بيئة القهر والكبت والقمع ومصادرة الحريات، التي أدت إلى قتل روح الإبداع لدى مواطنيها، واتبعت أسلوب البحث عن المؤيدين من المطبلين والمزمّرين والمنافقين والمتزلفين الذين يجيدون فن مديح المسؤول، ولا يتمتعون بالكفاءة ولا بالأمانة ولا يتصفون بالعلم ولا يملكون القدرة على الإنجاز ولا تقديم شيء مفيد للوطن وللشعب، ويعمدون إلى محاربة العلماء، وإبعاد الكفاءات، حتى لا ينكشف عوارهم وعجزهم، ويبين نقصهم وهزالهم.
من أهم ما تصاب به الأمم من عوامل الضعف والانهيار هو إبعاد الرجل المناسب عن المكان المناسب، وكذلك اختلال معايير الفرز والاختيار، وتصبح قائمة على القرابة والنسب والشللية والمصالح الشخصية الضيقة. وفي مقابل ذلك يغدو من أهم عوامل القوة والنهوض لدى الشعوب البحث عن أصحاب العقول والمواهب المتميزة ورعايتها والعناية الفائقة بها، وأن تعمد إلى اختيار الأقوى والأكفأ والأكثر أمانة وعلماً وحفظاً وانتماءً وطنياً صادقاً لمواقع المسؤولية، مصداقاً لقوله تعالى: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)).