سعود قبيلات: صقور هنا وحمائم هناك


لا حدَّ لاستعداد دول الجامعة العربيَّة (التي أصبحتْ خليجيَّة في الواقع) لتقديم كلّ ما يخطر (وما لا يخطر) بالبال من التنازلات الفادحة لـ"إسرائيل"؛ فحتَّى مبادرتها البائسة التي أقرَّتها في قمَّة بيروت 2002 ولم تستجب لها "إسرائيل"، تنازلتْ عنها مراراً وتكراراً. وآخر ما تفتَّق عنه ذهنها هو فكرة "تبادل الأراضي مع "إسرائيل"!". وفي المقابل، لا حدَّ لاستعداد تلك الدول للاستمرار في تأجيج أوار الحرب على سوريَّة، وتزويد المجموعات المقاتلة هناك بكلّ ما يلزم مِنْ أنواع السلاح وسواه، ورفض كلّ دعوات التفاوض والحلول السلميَّة الجادَّة.
على أيَّة حال، يبدو أنَّ دول الجامعة وصلتْ، أخيراً،في تنازلاتها، إلى الحدّ الذي يجلب لها شيئاً مِنْ ثناء عتاة اليمين الصهيونيّ؛ حيث اعتبرت وزيرة العدل "الإسرائيليَّة"، تسيبي ليفني (المسؤولة، أيضاً، عن ملفّ المفاوضات مع الفلسطينيين)، مبادرة "تبادل الأراضي"، تلك، التي قدَّمها وفد الجامعة العربيَّة في لقائه مع وزير الخارجيَّة الأميركيّ جون كيري في واشنطن، مؤخَّراً، "خطوة مهمّة"، ورحَّبت بذلك، وأمِلَتْ أنَّه "سيسمح للفلسطينيين بدخول غرفة (المفاوضات) وتقديم التنازلات اللازمة". كما رأتْ أنَّ هذا الحدث "يعطي أيضاً رسالة إلى المواطنين الإسرائيليين، فحواها: لم نعد وحدنا نتحدَّث مع الفلسطينيين وهناك مجموعة من الدول العربيَّة تقول: توصّلوا إلى اتّفاق مع الفلسطينيين وسنصنع السلام معكم وسنطبّع معكم".
لجنة جامعة الدول العربيَّة، التي حجَّتْ الأسبوع الماضي إلى واشنطن، كانت برئاسة رئيس الوزراء القطريّ حمد بن جاسم ال ثاني، وهو معروف بأنَّه صقوريّ جدّاً في ما يتعلَّق بالموقف مِنْ سوريَّة، وحمامة وديعة جدّاً في ما يتعلَّق بـ"إسرائيل". وقد قال، عقب اجتماع اللجنة مع كيري: "السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو خيار استراتيجيّ للدول العربيَّة"، ومن الواضح، مِنْ مجمل أداء السيِّد حمد، خلال السنتين الماضيتين، أنَّ الحرب على سوريَّة هي أيضاً خيار استراتيجيّ، بالنسبة له(وللدول المهيمنة على الجامعة العربيَّة كذلك). والقول إنَّ السلام مع "إسرائيل" خيار استراتيجيّ، معناه، أوّلاً، إقرار دول الجامعة بأنَّ سلامها المزعوم، هذا،مع "إسرائيل"، يتقدَّم في أولويَّته لديها على جميع مطالب وحقوق الفلسطينيّين والعرب؛ ومعناه، ثانياً، أنَّ هذه الدول ترى أنَّ الوضع الطبيعيّ والجوهريّ هو أنْ تكون علاقتها بـ"إسرائيل" على أحسن وجه، لولا أنَّ إشكالاً ثانويّاً (القضيَّة الفلسطينيَّة) يحول دون إعلان ذلك؛ الأمر الذي يقتضي منها تسوية هذا الإشكال بأيّ ثمن كي تتهيّأ لها الظروف الملائمة للوصول إلى العلاقات العلنيَّة الوطيدة التي تحلم بإقامتها مع "إسرائيل".
وهذا في حين تجد الولايات المتَّحدة أنَّ الفرصة أصبحتْ ملائمة لها للسير بخطط تصفية القضيَّة الفلسطينيَّة حتَّى نهاياتها وتعزيز أمن "إسرائيل" وإدماجها في المنطقة مِنْ موقع الهيمنة؛ وذلك لأنَّ سوريَّة ومعسكر المقاومة والممانعة في المنطقة منشغلون، الآن، بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة الهجمة الشرسة التي تشنّها عليهم أدوات الغرب وبعض دول النفط القروسطويَّة (وها هي "إسرائيل" تنخرط في هذه الهجمة بشكلٍ سافر شيئاً فشيئاً)؛ وأيضاً لأنَّ طرفي المعادلة الفلسطينيَّة الأساسيّين (سلطة رام الله وحركة حماس) أصبحا، كليهما، ضمن المعسكر العربيّ الموالي للغرب وخاضعين، بالنتيجة، لخططه وترتيباته. لذلك تحدَّثتْ دول الجامعة، عند طرحها خطّتها التصفويَّة الجديدة، بالنيابة عن الفلسطينيّين، بلا تردّد ولا لعثمة. بيد أنَّ الأمر العاجل، الآن، بالنسبة للولايات المتَّحدة، هو إعادة ترتيب صفوف حلفائها في المنطقة، لتشديد الحرب على سوريَّة وتدميرها. وهذا كان البند الرئيسي على جدول أعمال جولة الرئيس الأميركيّ باراك أوباما، مؤخّراً، في دول المنطقة؛ حيث كان منْ أبرز إنجازاته، إنهاء الإشكال الذي كان عالقاً بين تركيا و "إسرائيل"، ورسم تموضعات الحلفاء الآخرين في الحرب على سوريَّة. ثمَّ جاء وزير الخارجيَّة الأميركيّ جون كيري، بعد ذلك، ليقوم بمتابعة التفاصيل وتثبيت ما أنجزه رئيسه.ومبادرة الجامعة العربيَّة تمثِّل، في جانبٍ مِنْ جوانبها،جزءاً مِنْ هذا السياق.
وهذا ليس سوى غيظ مِنْ فيض الكارثة التي ستلحق بالحقوق الفلسطينيَّة والعربيَّة، إذا ما تمّ إنجاز المشروع الأميركيّ في سوريَّة وفي المنطقة.