على هدير البابور !!
لوقلت ،قبل ثلاثين سنة ، ان هذا الهاتف ،الجالس في الركن مربوطا بسلك في الحائط، سيصبح صغيرا تضعه في جيبك وسترى من يحدثك وجهاً لوجه، و كلاً لكل ،لاتهموك بالجنون. ولو قلت ان النظارات التي على عينيك الان ستضعها في عينيك- عدسات لاصقة - ، لترى كل الناس دون ان يراها اي ناس لقالوا انك من الجان.
لقد تطور الزمن سريعا,بل اسرع مما يمكن استيعابه ، وان امكن استيعابه فيصعب هضمه بحيث اصبح
الانسان كائنا استهلاكيا مصاباً بتلبك الحياة ، ان جاز التعبير واظنه يجوز جدا في ظل ما نراه الان. لكن مع ما نسميه حضارة او نتاجها، فقدنا اشياء كثيرة جميلة واصيلة في مجتمعنا ونفوسنا. واصبحنا نتحدث عما كان فينا ومنا قبل سنوات كأنه حدث من قرون مضت او من حضارات بادت لبشر لم يعودوا موجودين.
زمان كانت الشمس اكثر قربا منا ، وكانت بمثابة ساعة لمن لا يجيد قراءة الساعة او لا يملكها. الزعتر او الفلافل بداية علاقة الفم بالأكل ان وجدا ، وغط قطعة الخبز بكاسة الشاي ان كان شراؤهما متعذراً.البنطلون الكاكي زي موحد للطلاب، لايفرق بين غني و فقير الا بالتفصيل و الكوية. القميص مكمل للبنطلون باللون و القماش و الرائحة، فالبيجامة المخططة ذات الجيوب الثلاثة التي لا داعي لها ، كانت لابناء الدلال من الطبقة الوسطى، اما الاغنياء فلهم مدارسهم و زيهم و لنا مدارسنا و زيِنا .كانوا يجبروننا على حلاقة شعرنا على الصفر حتى لا تصبح رؤوسنا ملعبا للحشرات، لا جِلّ يجعله كاشجار خشبية ، زيت شعر بلون احمر يجعله منسدلاً مثل شعر رشدي اباظة وشكري سرحان.
كانت التعريفة مصروفاً يكفي سندويشة من ابو العبد على باب المدرسة، او بليلة حمص بالكمون من حسن الفوَال . نصحو على هدير بابور الكاز يغلي عليه الشاي ، والام الطيبة تركض من ابن الى ابن الى ابنة ، توقظ الجميع الى نهار جديد، كنا كثيرين في الدار، الشقة المعلقة لم تكن قد علَقتنا في الهواء لتتمايل وتهتز كما الان. على الدور كل شيء ، الاكل، الحمًام ، الحذاء القريب للقدم التي تصله اولاً ، لا فرق نمرة او نمرتان ، « باتا» لا تدقق بالارقام و جزمة «عصفوركو « ذات الطبعة الصفراء تصلح لكل الاقدام.فالكل كان يصل ، بحذاء من البالة او ببوت اسود ابو اصبع او بما يشبه الحذاء.
من كان يحمل ساعة محظوظ ، ومن لم يكن يملك محظوظ ايضاً وربما اكثر. فالشمس لم تكن تغطى بغربال او بصندل ، لا حقيقة ولا مجازاً، الساعة البيولوجية كانت الادق ويكفي ان تسمع الاذاعة ماذا تقول لتعرف كم بقي على جرس المدرسة،جرس ولا كل الاجراس و المعلمون بناؤون حقيقيون للانسان، لا منتقمون من ضيق الحال فيضيقوا على التلاميذ عقولهم و اخلاقهم. طابور الصباح عسكري بمعنى الرجولة و النظام. التفتيش على الاظافر و الشعر و المًحرًمة التي من قماش ضرورات الدخول الى الصف .
كان كل شيء نظيفاً بلا مساحيق تلفزيونية . صابون كنعان او المفتاحين او برش صابون من الشام في سطل الغلي على البابور يكفي لغسيل اكثر بياضاً ونقاءَ. الخميس لحمام اللجن او الطشت ،
وبعد الظهر للسينما بشلن وقنينة كازوز و حفنة بزر، لاشيبس مقلي بزيت سيارات او كوكاكولا ظلت مقاطعة سنوات ثم دخلت كما دخل غيرها من مصانع السلام.
كل ما كان كان طبيعياً حقيقيا محترماً . المعلم الطالب الام الاب الشارع الكتاب و...الهدف.
يا الله كم كنا انقياء .