غوتلوب فريجه يعانق اللّغة



النص:
تجد العلوم المجرّدة نفسها يوما بعد يوم، في أمسّ الحاجة إلى أداة تعبير تمكّنها، في الوقت ذاته، من تفادي أخطاء التفسير و تجنّب أغاليط البرهان، هذه الأغاليط و تلك الأخطاء راجعة إلى عيوب اللّغة و حاجتها إلى الكمال (....)
ذلك أن اللّغة لا تحقّق هنا شرطا أساسيا و هو وحدة المعنى. و أنّ أكثر الحالات خطرا هي تلك الّتي تكون فيها الفروق بين معاني اللّفظ كبيرة جدّا، و تكون فيه اختلافات المعنى ضعيفة من غير أن تتساوى. ذلك أن اللّغة لا تخضع لقواعد منطقية بحيث تكفي مراعاة النحو لضمان الدقة الصورية للفكر(....)
ترجع العيوب التي أشرنا إليها إلى تحوّل اللّغة و عدم استقرارها، اللّذيْن هما الشرط الضّروري لتطوّرها و اغتنائها. يمكننا أن نقارن اللّغة من هذه الزّاوية بأيدينا، التي تتوفّر على قدرة هائلة للقيام بمهام شديدة التّنوع، و الّتي لا تكفينا بالرغم من ذلك. إننا لا نجد مفرا من صنع أيد صناعية و أدوات من أجل تحقيق أهداف خاصة، تعجز أيدينا عن تحقيقها (....)
تشكو اللّغة من النقص ذاته: لذا فنحن في حاجة إلى مجموعة من العلامات، الّتي لا يشوبها لُبس، و الّتي تحفظ صورتها الصّارمة مادّتها و فحواها.
غوتلوب فريجه من كتابه: الكتابات المنطقية و الفلسفية.
صاحب النص:
رياضي منطقاني و فيلسوف ألماني، ولد في اليوم الثامن من نوفمبر سنة ثمانية و أربعين و تسع مائة و ألف، يُنسب إلى المدرسة التحليلية في أوربا و يُنعت برائدها أيضا، توفي في السادس و العشرين من جويلية سنة خمسة و عشرين وتسع مائة و ألف.
تحليل النص:
منذ وجود الإنسان كأفراد، كان بحاجة إلى وسائل اتصال قصد التفاهم، و ضمانا للمعيشة المشتركة فيما بين التجمعات، المجتمعات فالشعوب المختلفة. لذا ظهرت اللغة تلبية لهذه الحاجة الملحة.
فاللغة هي وليدة حاجة الإنسان، و بالتالي كانت و لا تزال تمثل معبرا آمنا للمعلومات و المعطيات بين أطراف الكيان البشري، أو بين الأجيال بأكملها.
و الحديث عن هذا الابتداع الفريد، يقودنا إلى التوقف في تلك المحطة الهامة من تاريخ البشرية، حينما رفعت هذه الوسيلة إلى مكانة الكسب، فبازدهار الفكر في بلاد الإغريق، خاصة عند ظهور مقارعة الحجة بالحجة، خرج إلى العلن فرقة السوفسطائيين ، و اللذين تحكموا في اللسان اليوناني تحكما مدهشا، وقد أفضت هذه العملية إلى تحريك عقول عظيمة للتصدي لسلطة اللغة على الجماهير، فظهرت هذه الأخيرة على هيأة أداة لتجيش الشعوب، و أعطي لها قدرا كبيرا من السحر و القوة في الضحد عبر ما سمي بالخطابة، فما كانت فلسفة سقراط ، أفلاطون و حتى أرسطو سوى محاولات لمقاومة هيمنة الأداة اللغوية على أفئدة البشر .
لكن بعد عصور عديدة بعدها عادت أوربا إلى دراسة اللغة، من عدة زوايا، فكانت زاوية العلم ترى فيها أداة من أدوات البحث العلمي، الجديرة بالدراسة قصد تقريبها من الدقة المطلوبة، و كانت زاوية الفن تنظر إليها على أنّها من كماليات وصف الأعمال الجميلة، فجمالها يزيد في قيمة مواضيعها، بينما نظرت إليها تيارات فكرية أخرى على أنها سبب الوجود، و بزوالها يفقد الوجود معناه الجميل.
و من هنا! و بناء على ما تقدم في النص، نجد السؤال التالي:
ما علاقة الإنسان باللغة؟ و ما دور مبناها و معناها في تحديد المعرفة البشرية؟
مسألة اللغة، اللسان و الكلام ليست من القضايا السهلة و البسيطة، كما يظن الكثير من الأفراد، و إنما هي معقدة للغاية، هذا ما أراد فلاسفة اليونان القديمة تضمينه في كتاباتهم.
و على هذا الأساس قام أفلاطون برسم فلسفته الصارمة قصد تفادي هلاك آخرين على طريقة سقراط، فالكثير من الروايات شرحت تلك القضية القانونية الشهيرة التي كانت نتيجتها إعدام فيلسوف كبير كسقراط، لكن لو عدنا إلى صلب هذه المعركة القضائية، فإننا نلمس نوعا من الظلم كما بينه صاحب كتاب "تاريخ الوعي" ، بحيث أن سقراط و على الرغم من عدم ارتكابه للتهم المنسوبة إليه، إلا أنه سقط في حالة إثبات هذه التهم عليه، و ذلك لعجزه عن مقارعة المدعين عليه، الذين تفوقوا لسانيا عليه قبل كل الأمور الأخرى. و من هنا يمكننا أن نقول بأن سبب إعدام سقراط كان نتيجة لسلطة اللغة التي أنصفت خصومه و ظلمته هو.
مما أدى بأفلاطون إلى محاولة التنبيه لهذه القضية، و لعل ما يؤكد هذا الطرح عبارته على باب الأكاديمية ، و التي أرادت أن تعطي رسالة مفادها أن فلسفة أفلاطون هي بحاجة إلى متحكمين باللغة قبل أن يتحكموا بالفكر، لأن لغة الرياضيات هي أدق اللغات، و هي أشد مناعة عندما يتعلق الأمر بالمعاني و كيفية حفظها رمزيا.
و ربما نجح أفلاطون إلى حد كبير في تنبيهه هذا، و الدليل أن أرسطو انبرى لنفس الإشكال، فكانت أطروحته المتعلقة بوضع ميزان يزن الفكر ليبين صوابه و خطـأه لحجة كافية لوضع ما سماه الأرغنون ، قصد إعطاء كل حرف قيمته الشكلية و المعرفية، و التي أدت إلى سيطرة من نوع آخر، فأصبح المنطق الصوري، التقليدي أو الأرسطي مسيطرا على الساحة الفكرية لمدة فاقت ثانية قرون من الزمن، إلى أن ظهرت هذه الإشكالية من جديد، عبر ظهور العلوم المتخصصة، و عودة قضية الدقة لتضرب مصداقية النتائج العلمية كما ضربت أساساتها أيضا.
و من هنا فإن سلامة اللغة هي سلامة للعلوم و الفلسفات التي تقوم عليها حسب المدرسة التحليلية ، و من هذا المبدأ يذهب فريجه غوتلوب إلى أنّ اللغة هي الأداة المناسبة التي تستحق الاهتمام حتى تصل إلى مستوى نظام غير قابل للاختراق، بحيث تجنب مستعمليها السقوط في الفهم الخاطئ للأفكار.
و يقوم هذا الطرح على ما يلي:
I. المبنى غير جدير بحمل المعنى، و هذه الثنائية في اتصالها تقوم على الكثير من شوائب التحري و الاستقصاء، فاللغة في مبناها لا تستند على قواعد المنطق الصارم الذي يحفظ المعنى الواحد، بل يكتفي بصيغ النحو و الصرف إضافة إلى الصور المجازية، و التي تستمد قوة حضورها من شكل اللغة الرنان ذا الصيغة المتحركة، و التي تطيع عقل المستقبل لها بتحفيز شغفه لاقتحام المجهول عنه، دون أن يهتم لصحة أو خطأ المعنى التي تعبر عنه، لأن شاعرية اللغة كفيلة بطمس مضمونها المعاق في عمقه.
II. اللغة كالحرباء التي تستمد تميزها من عدم ضبط لونها، و بالتالي فإنّ ثبات الصيغ اللغوية سيعطي انطباعا جافا للغة نفسها، مما يؤدي إلى موت مصلحاتها، حيث يصبح استعمالها دقيقا، لكنه قليل كما هو الحال بالنسبة للغة الرمزية و الرياضية. و على اثر هذا المصير فإنّ اللغة تهوى حركتها التي تزيد في تطعيمها بالجديد من المصطلحات مما أدى بـ: غوتلوب إلى تشبيه الصيغ اللغوية بيد الإنسان التي تبقى غير كاملة عندما يتعلق الأمر بأداء المهمات كافة، مما يدفع الإنسان إلى الاستعانة بأدوات صناعية ليملئ الفراغ الذي يتركه عجز اليد الطبيعية، على الرغم من أنها ماهرة في أداء وظائف كثيرة.
إذن فحسب غوتلوب فإن اللغة التي هي في حقيقتها أداة تعبير تستعملها العلوم المجردة، هي ناقصة و تحتوي على الكثير من الفراغات التي لا تُسد سوى بمجموعة شفرات على شكل علامات، تعطي للمعنى حصانة كاملة.
و ما يؤخذ على هذه الرؤيا هو ذاك الموجود في مقال للكاتب جواد البشيتي ، و خاصة ما ورد في الجزء التالي".... إنَّني كثيراً ما سَمِعْتُ كاتِباً يقول (إذ استعصت عليه، واستغلقت، الكِتابة) إنَّ "الفكرة" موجودة في رأسي؛ لكنِّي لا أستطيع التعبير عنها.
كلاَّ، لا وجود لهذه الفكرة في رأسه؛ فإنَّ "الفكرة" التي لا يُمْكِنكَ (أبداً) التعبير عنها (ولو باللغة العامِّيَّة) هي فكرة لا وجود لها (أبداً) في رأسكَ؛ فالإنسان إنَّما يُفكِّر بـ "الكلمات"، أيْ بواسطتها؛ و"الفكرة" لا تَحْضُر في الذِّهن إلاَّ وهي مرتدية "كلمات"؛ فـ "اللغة" هي "وعاء الفكر" ...."
و من هذه النقطة فإن اللغة لدى هذا التيار، هي معنى الوجود، و بالتالي هي التي تعطي للإنسان تلك القدرة الخلاقة على الإبداع، و بدونها فالفرد هو غير موجود.
في الأخير يمكننا استنتاج بأنّ اللغة مسألة خلافية، فهناك من يرى فيها وسيلة للتعبير، و هناك من يراها على أنها الوجود ذاته، و لكنها تجد نفسها جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، و لو كانت ناقصة.


شكر:
أستاذي "د".... شكرا على دعمك لي خلال إنجازي هذا العمل
و أشكر داياس الذي شطب كفاحه من أجل الإمبراطورية من سجلات العظمة
شكرا جزيلا لكما.



السيّد: مــــزوار محمد سعيد