هل الجغرافيا نقمة على الأردن؟

 

مرة أخرى، تضع الجغرافيا الأردن في دائرة النار. وفي انتظار الحرب المقبلة، الكثير من الأشياء معطلة؛ حالة انتظار وقلق في السياسة والاقتصاد والمجتمع، فيما قلبت الحرب الداخلية المستعرة على تخوم الحدود الشمالية الحياة رأسا على عقب منذ أكثر من عامين، وإلى هذا الوقت لم تتوقف تداعيات حروب العراق منذ ثلاثة عقود، كما هو الأمر في حالة الطوارئ التاريخية باتجاه الحدود الغربية. فهل الجغرافيا نقمة على الأردن؛ إذ لا موارد طبيعية، ولا مناخ أو تضاريس تساند قدرة البشر على الحياة، وفوق كل ذلك طوارئ لا تتوقف في كل الاتجاهات؟

 

كثيرا ما عُدّت الجغرافيا أساس العمران البشري وتكوين المجتمعات ونشأة الدول. لكن الجغرافيا المعاندة، كما هي في حالة الأردن، تمنح بعض المجتمعات قدرة فائقة على التكيف، وقدرة من نوع آخر على إدارة الندرة في الموارد؛ فهل لدينا فرصة أخرى للتكيف مع كرة النار التي تتدحرج بسرعة هذه المرة؟

 

عادت مدرسة الجغرافيا السياسية لتلمس خطاها من جديد في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، بعد أن أُهملت لأكثر من نصف قرن، عندما ساءت سمعتها جراء التوظيف النازي لها. وفي الدراسات المعاصرة، تمت إعادة اكتشاف ما يسمى جغرافيا المحليات؛ أي المبحث الذي يدرس تأثير الخصائص المكانية، بثقلها وهشاشتها، على العمليات السياسية داخل الدولة، وفي إطاريها الإقليمي والدولي. ولعل أمثلة الصراعات المفتوحة والمتشابكة في العراق، ودارفور والصومال، وحتى التدخل الإقليمي والدولي في لبنان، تعد نماذج صالحة لاستعادة تلك المداخل العلمية في تفسير ما يحدث اليوم، بعيدا عن الاستسلام لسطوة القراءة اليومية للأحداث. ولعل موقع الأردن من الصراعات الإقليمية يمكن أن ينظر إليه من هذه الزاوية؛ كيف استطاعت هذه الصراعات والحروب أن تعيد تشكيل هذا المجتمع الصغير في كل عقد، من جديد.

 

تعلمنا الجغرافيا السياسية المعاصرة بأنها جغرافيا الصراع على الموارد بالدرجة الأولى؛ فهل فقر الأردن بالموارد الطبيعية نأى به عن وجه آخر من نقمة الجغرافيا؟ كما تعلمنا أن هذا الصراع يرتبط في قوة تأثيره بشبكة المصالح الخارجية، بينما يتصف هذا المستوى من الصراع بدرجة عالية من القدرة على الاختباء خلف واجهات متعددة، يصعب في حالات كثيرة كشف وجه الحقيقة فيها، وبالتحديد حينما تشتبك مع منظومات المصالح الإقليمية والدولية.

 

لقد رصدت خبرة أكثر من ثلاثة عقود من البحث العلمي في هذا المجال، حوالي ألف صراع بين المحليات في أوروبا وحدها خلال القرن العشرين؛ منها صراعات عابرة للحدود، لكنها في التحليل النهائي صراع محليات جغرافية؛ ومنها صراعات بين أقاليم الدولة الواحدة، وصراعات بين المدن على غرار الرواية الإنجليزية الشهيرة "قصة مدينتين"، وصراعات داخل المدن بين الضواحي والأحياء. ومعظمها كان يستسلم للتعبيرات الثقافية في إدارة هذا الصراع، رغم أنه ليس الأصل، إذ تكمن الخلفيات الموضوعية في الصراع على الموارد. وهنا تتعدد طبقات الموارد التي عادة ما تكتسي لحما ثقافيا ورمزيا، ويستدرج حُمى التاريخ والذكريات في إدامة الصراع أو استعادته، ويتم اكتشاف أرض الآباء والأجداد ومعتقداتهم، وإضفاء قيمة رمزية تحرك الصراع وتديره. وغالبا ما ينسج الخيال الثقافي والاجتماعي حول أرض الآباء خارج هذه الأرض، وبعيدا عنها.

 

وإذا كان المصير التاريخي للشرق الأوسط أن يُضطهد بنقمة الجغرافيا أكثر من أن ينعم بنعمتها، فإن الصراع حول الأرض وما في بطنها، والمياه حولها، وطرق المواصلات، وأمن الطاقة، يبقى يأخذ لون الهوية في كل مرحلة، رغم أنه لم يكن غايتها المطلقة في يوم من الأيام. والحكمة الأقرب إلى القانون الاجتماعي والسياسي تقول إنه كلما ازداد الصراع حول الهوية حدة في هذه المنطقة من العالم، كلما كانت حقيقة هذا الصراع أبعد عن كنه الهوية ومكونها الثقافي والديني. وهكذا يساق الناس اليوم إلى الصراع حول أفكار الآباء وعلى أرضهم، من أجل قتل الآباء والأبناء معا!