الإسلاميون و شعارا «التمكين» و«التحرير»

 

تراجعت مكانة "القضية الفلسطينية” في خطاب الحركات الإسلامية خلال عامي "الربيع العربي” الفائتين، وبتنا نسمع على ألسنة كبار المسؤولين السياسيين و”الروحيين” فيها، حديثاً يميل لتغليب "التمكين” على "التحرير”، أي تمكين الحركات الإسلامة من السلطة والحكم، كمقدمة وشرط لـ”التحرير” حين تنضج شروط المعركة الكبرى، وتبدأ جحافل "الغزوات” بالتوجه إلى الجبهات والحدود.

و”التمكين” هنا، مفتوح على شتى التقديرات، سنوات وعقود وربما أجيال..فمن يدري متى سيعلن إخوان مصر انتهاء عملية "التمكن والتمكين”، أو متى يفرغ إخوان سوريا من حربهم على النظام، وحروبهم اللاحقة على مجادليهم وأخصامهم من سلفيين وعلمانيين و”شبيحة”..وكذا الحال بالنسبة لبقية هذه الحركات التي وصلت السلطة أو هي في طريقها إليها.

هذا التحول في خطاب الحركات الإسلامية و”سلالم أولوياتها”، ما كان ممكناً له أن يحدث لولا اندلاع ثورات الربيع العربي، ووصول الإسلاميين منفردين أو مع غيرهم، للسلطة والحكم، في أكثر من دولة عربية..لقد تبدل الخطاب والأولويات بتبدل المواقع..تبدلت المواقف جراء تبدل المواقع..والمؤكد اليوم بعد كل هذه السنوات والعقود من "التوظيف” و”الاستخدام” للقضية الفلسطينية، أنها لم تكن في صدارة الأولويات، اللهم إلا عند الحاجة لكسب التأييد وتحشيد الرأي العام وتأليبه ضد نظم الفساد والاستبداد المتخاذلة والمتواطئة والمتآمرة..أما اليوم، فيُعاد انتاج خطاب الأنظمة البائدة، بحرفيته تقريباً، مضافاً إليه الكثير من "الافتاء” المُعد سلفاً لـ”الرفق باليهود” و”حفظ العهود والمواثيق” و”دروس الحديبية” و”الصلح خير”.

مثل هذا الانهيار في مكانة القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وقع كالزلزال بلا شك على كثيرين ممن راهنوا على تحوّل الربيع العربي إلى رافعة كبرى لاستنهاض الكفاح (الجهاد) من أجل فلسطين..حتى أن حركة حماس التي انتشت بصعود نظرائها و”شقيقاتها” للحكم في مصر وتونس وغيرهما من الأقطار العربية، تجد اليوم، صعوبة فائقة في الترويج لـ”خيار المقاومة” بعد أن فقدت حلفاءها السابقين، وأدار حلفاؤها وأشقاؤها الجدد ظهورهم لمتطلبات إنفاذ هذا الخيار وحفظه وتصعيده، بل وكانوا الأنشط في مطاردة الأنفاق و”التهريب” والأسرع في عقد صفقات التهدئة والهدنة وقطع الالتزامات بحفظ الأمن الإسرائيلي والالتزام بها..ولمن يهوى "المكابرة” عليه أن يقدم لنا جردة حساب بما فعله نظام مرسي خلال العام الأخير، خلافاً لما كان يفعله نظام حسني في سنوات حكمه الأخيرة.

الحركة الإسلامية في فلسطين، لا تمتلك ترف انتظار "التمكين”..فالمقاومة هي مبرر وجودها، وهي "العلامة الفارقة” التي ميزتها عن "تيار المساومة والتفاوض”، والأهم أن شعبها وأرضها ومقدساتها ما زالت ترزح تحت نير الاحتلال وتتهددها جرافات الاستيطان وتضيق الخناق حول عنقها، إجراءات العزل والحصار.

هي– الحركة الإسلامية الفلسطينية - لا زالت تتحدث حتى اليوم عن هذا الخيار، ولكن بقليل من الأنياب والمخالب، وهي تعرف أن ظهرها مكشوف، وأن وجود الإخوان على رأس الحكم في مصر، لم يُفض إلى أي تغيير نوعي في قواعد اللعبة..هي لا تستطيع العودة لحلفاء الأمس في "معسكر المقاومة والممانعة”، وليست مطمئنة إلى مستقبلها ومستقبل "خيارها المقاوم” مع حلفائها الجدد من القاهرة إلى الدوحة مروراً بأنقرة.

لهذا نجد هذه الحركة تقف حائرة ومنقسمة عند المفترق الأخطر الذي بلغته منذ انطلاقتها قبل ربع قرن تقريباً..هل ستنصاع لحسابات "التمكين” وتنتظر "غودو الذي لن يأتي”..هل ستنصاع لاتجاهات هبوب الضغوط القطرية – التركية – المصرية الدافعة باتجاه التكيف مع "شروط” و”مستلزمات” عملية السلام والقبول الدولي..أو أنها ما زالت على عهدها "المقاوم”..هل ثمة طريق ثالث بين الطريقين، وهل هي جاهزة لولوجه واجتياز عتباته.

مثل هذه الأسئلة والتساؤلات، تجدها تدور في أذهان القادة والنشطاء والمناصرين، فتقسمهم إلى تيارات ومدارس مختلفة ومصطرعة أحياناً..وهي تدور في أذهان الشخص الواحد وداخل التيار الواحد..فلا أجوبة بسيطة عن هذه الأسئلة البسيطة.

تخطىء الحركة الإسلامية في فلسطين إن هي ركنت إلى "نظرية التمكين” او أخذت بها..لو فعلت ذلك تكون قارفت ذات "الخطيئة” التي قارفتها حركة القوميين العرب قبل نصف قرن من الزمان تقريباً، عندما وقعت في فخ "التمكين”، تمكين عبد الناصر والناصرية من امتلاك أوراق الحكم والسيطرة والقوة، قبل "توريطه” في حرب غير جاهز أو مستعد لها مع إسرائيل..يومها يذكر قدامى القوميين، كيف رُفع شعار "فوق الصفر وتحت التوريط”، وهو الشعار الذي يلخص حال المقاومة الإسلامية في فلسطين هذه الأيام.

يومها كانت حركة فتح في ذورة صعودها، وكان برنامجها الوطني و”كيانيتها الفلسطينية” في ذروة تألقهما..وكان "الكفاح المسلح” شعاراً جاذباً للمناضلين من دول العرب الـ22 والمسلمين الـ57 ومن قارات العالم الخمس..وما يعطي حماس اليوم، مهلة أفضل وأوسع للتفكير والتدبير، هو أن حركة فتح في "خريف عمرها”، وبدائل فتح وحماس على حد سواء، ليست متوفرة ولم تطل برأسها بعد..لكن هذه المهلة ليست مفتوحة على الزمن، والمؤكد أنها ليست بلا نهاية.

نعرف صعوبة انتقال حماس إلى خندق فتح، مع أن هناك الكثير من المؤشرات التي تدعم هذا الاحتمال..ونعرف أكثر صعوبة العودة إلى "خيار المقاومة” بأساليبه وخطابه وتحالفاته، فقد جرت مياه كثيرة في أنهار الشرق الأوسط الكبير تجعل "ما مضى فات وانقضى”..فهل ثمة من متسع للتفكير بطريق ثالث، أو خيار آخر بين هذين الخيارين..خيار ينهض بالخطاب والمؤسسة الفلسطينييْن، ويعيد تعريف أهداف النضال في المرحلة المقبلة، ويصوغ بإبداع أدواته الكفاحية والنضالية..خطاب يعيد "توطين” الحركة الإسلامية الفلسطينية بعد أن ذهب كثيرون باتجاها "أسلمتها” و”تعريبها” من دون انكفاء أو انغلاق، من دون انفصال عن البعدين القومي والأممي للمسألة الفلسطينية..أسئلة وتساؤلات برسمنا جميعاً، وبالأخص الإسلاميين منا.