أهو النسور أم فوكوياما؟!

 

"لا تسرع؛ فأنا أَسْتَعْجِل الوصول"؛ أمَّا صاحب هذا القول فهو تشرتشل؛ ولقد قاله لسائقه الذي كان يقود السيَّارة بسرعة جنونية، متِّجِهاً نحو الإذاعة البريطانية، ليُوجِّه منها رئيس وزراء بريطانيا خطاباً إلى الأمَّة، يُعْلِن فيه نهاية الحرب، والنَّصر على ألمانيا النازية.
وبقانون "تداعي المعاني (أو قانون "الشيء بالشيء يُذْكَر")"، تَذَكَّرْتُ هذا القول لتشرتشل إذْ سمعتُ رئيس الوزراء الدكتور عبد الله نسور يُخاطِب النوَّاب، في البيان الوزاري لحكومته، قائلاً: نمضي قُدُماً إلى الحكومة البرلمانية، بصفة كونها منجَزنا الإصلاحي الأهم، حريصين كل الحرص على اجتناب حتى أصغر خطأ؛ فلن نُجازِف بهذه الفكرة الجليلة؛ لأنَّنا إذا فَشِلْنا هذه المرَّة ـ لا قَدَّر الله ـ نَمُدُّ الرَّافضين لفكرة الحكومة البرلمانية بحُجَّة قوية؛ وهذا ما يجب الحرص على عدم وقوعه"؛ فالعجلة من الشيطان؛ وفي التأنِّي السَّلامة؛ وكل حثيث مكيث.
هل تنال حكومته "الثِّقة (النيابية)"، بعد (ولا أقول "بفضل") البيان الوزاري (وإنَّ في هذا البيان لسِحْراً يَسْحَر على وجه الخصوص المستوزرين من النوَّاب)؟
ليس بـ "الخَبَر" أنْ تنالها؛ فـ "الخبر" إنَّما هو ألاَّ تنالها؛ فمتى نسمع "خبراً"؟!
"الغَزَل" كان المبتدأ في "البيان"؛ فمجلس النوَّاب (بـ "عبارة الغَزَل، أو المغازَلة") هو "صاحب الشرعية الديمقراطية" في البلاد؛ فهل من شرعيةٍ تعلو هذه الشرعية؟
لا بدَّ من إجابة هذا السؤال حتى نُحْسِن الفهم (والظَّن).
مَنْ رأى النوَّاب، و"حراكهم" في الجلسة، وسمع كلامهم الذي لا يَقَع على أسماع شعبية تشبه أسماعهم، يَفْهَم، عندئذٍ، وعلى خير وجه، معنى عبارة "ممثَّلو الأُمَّة".
ومع ذلك، لم يَجِد النسور حرجاً في أنْ يقول للشعب (البصير السميع العليم) إنَّ هذا المجلس، هو الذي فيه يَظْهَر للعيان "الإنجاز العظيم"؛ فما هو هذا "الإنجاز"؟
عن هذا السؤال أجاب النسور قائلاً: الانتخابات (النيابية الأخيرة) كانت من النزاهة بمكان؛ ولقد أفرزت هذا المجلس النيابي؛ وبإفرازها له عادت سلطة اختيار ممثِّلي الأُمَّة إلى الشعب..
أليست هذه "الإعادة (أو العودة)" بـ "إنجاز عظيم"؟!
"الانتخابات" بـ "نزاهتها (التي يُضْرَب فيها المَثَل)"، هي التي "أعادت" تلك "السلطة" إلى الشعب؛ أمَّا "النَّزاهة" نفسها فكان لحكومة النسور شرف "إعادتها" إلى "الانتخابات"؛ وعملاً بـ "منطق أرسطو"، يصبح ممكناً القول إنَّ حكومة النسور هي التي بفضلها "عادت" سلطة اختيار ممثِّلي الأُمَّة (الذين رأيناهم وسمعناهم) إلى الشعب؛ لكنَّ النسور لم يَنْتَقِل إلى "الكلام غير المُباح"؛ لأنَّه لم يوضِّح للشعب مَنْ ذا الذي كان مُغْتَصِباً لهذه السلطة منه، وكم من الزمن استغرق هذا الاغتصاب.
حتى عبارة "أعادت" لا يسمح لنا "المنطق" بفهمها إلاَّ على أنَّها تَعْني أنَّ تلك السلطة كانت لدى الشعب، ومارسها الشعب؛ ثمَّ اغتصبها منه مُغْتَصِبٌ؛ لكنَّ هذا الفهم هو ما كان يتحدَّى النسور أنْ يقيم الدليل على صوابه وسلامته.
النسور كان ينوي ويعتزم ضَمَّ نوَّابٍ إلى حكومته حتى قبل تلاوته "البيان الوزاري" الذي وعد فيه بضمِّهم عمَّا قريب؛ والدليل على أنَّه صادق في وعده هو جعله حكومته بحجمٍ يتَّسِع مستقبلاً لطائفة من النوَّاب (وما على النوَّاب المستوزرين إلاَّ أنْ يمكِّنوه من البرِّ بوعده بمنحهم الثِّقة لحكومته).
"السبب المُعْلَن" لعدم ضَمِّهم "الآن" هو، على ما أوضح النسور نفسه، استعصاء العثور على "نوَّاب بخواص سياسية"؛ فَلَمْ تُفْلِح الجهود التي بُذِلَت للتأسيس لـ "توافُق في البرامج السياسية" بين نوَّاب صالحين للجمع بين شَرفيِّ "النيابة" و"الوزارة". النسور أبى أنْ يأخذ بـ "الخيار المُتاح"، ألا وهو "اختيار النوَّاب (للوزارة) على أُسُس شخصية"؛ لأنَّ الاختيار على أُسُسٍ كهذه هو أمْرٌ يتناقَض مع "الفكرة الجليلة"، أيْ فكرة "الحكومة البرلمانية"!
لقد أجاب؛ لكن بما وَلَّد في ذهني كثيراً من الأسئلة والتساؤلات، التي منها، على سبيل المثال لا الحصر، "هل الوزراء في حكومته التي قَدَّم بيانها الوزاري اخْتِيروا على أُسُسٍ غير شخصية، أيْ على أُسُسٍ سياسية؟"؛ و"هل النوَّاب أنفسهم، والذين يضمهم مجلس أُعيدت فيه سلطة اختيار ممثِّلي الأُمَّة إلى الشعب، قد اخْتِيروا (في الانتخابات النيابية النزيهة الأخيرة) على أُسُسٍ غير شخصية، أو على أُسُسٍ سياسية؟"؛ وإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف لنائبٍ من جِنْسٍ غير الجنس السياسي، أنْ يُصبح وزيراً من جِنْسٍ سياسي؟"؛ "أليس في هذا طلب تعجيزي، يشبه الطَّلب الإلهي من معشر الجنِّ والإنس أنْ ينفذوا من أقطار السموات والأرض؟"؛ و"هل النسور نفسه لبَّى ما دعا النوَّاب إلى تلبيته قبل، ومن أجل، أنْ يصبحوا وزراء؟".
في "البيان الوزاري"، رَسَم النسور "خريطة طريق" إلى "الحكومة البرلمانية"، التي يشبه قيامها "نهاية التاريخ" عند فوكوياما؛ فمع قيامها، أو بعد قيامها، يتجسَّد مبدأ "الأُمَّة مَصْدَر السُّلطات"، والذي هو "جوهر الديمقراطية، وخلاصة معناها".
السَّيْر، مُستَرْشدين بهذه "الخريطة"، بدأ إذْ أعادت "الانتخابات النيابية الأخيرة"، بـ "نزاهتها"، سُلْطة اختيار ممثِّلي الأُمَّة إلى الشعب؛ وهذا المجلس النيابي يُعبِّر عن هذه "الإعادة".
بعد قيام هذا المجلس، وبعد ضَمِّ عدد من النُّوَّاب إلى الحكومة، نمضي قُدُماً في هذه الطريق، فنَضَع قانون انتخاب جديداً، وقانون أحزاب جديداً؛ ثمَّ (أيْ بعد نهاية ولاية حكومة النسور) تُجْرى انتخابات نيابية جديدة، فيختار ممثِّلو الأُمَّة الجُدد (والذين يُمثِّل بعضهم، في الوقت نفسه، أحزاباً) السلطة التنفيذية، فَنَبْلُغ بعد ذلك، وبفضل ذلك، "نهاية التاريخ"، والتي هي كناية عن قيام "الحكومة البرلمانية"، التي بقيامها "تصبح كل السُّلْطة السياسية (في المملكة) مختارة مباشَرَةً من الشَّعْب، أو من نوَّابه".
"البيان الوزاري" كان مُفْعَماً بـ "سين" و"سَوْف"، أو بـ "الوعود"، التي نأمل ألاَّ تكون من جنس مواعيد عُرْقوب؛ ولقد بَشَّر "البيان" ضِمْناً بقيام "المملكة الثانية"، التي ما أنْ تقوم مزدانةً بـ "الحكومة البرلمانية" حتى نرى أوجه التماثُل والتشابه بينها وبين "المملكة المتَّحِدة (البريطانية)"، مثلاً، تَفُوق أضعافاً مضاعفة أوجه الاختلاف والتباين؛ فمن حيث المبدأ والجوهر والأساس يجب ألاَّ يكون هناك فَرْقٌ بين الحكومة البرلمانية عندنا والحكومة البرلمانية عندهم.