مكاشفة على الآخر !

اذا كانت لديك رغبة مُلحة في التعرض لجلطة دماغية تقودك الى عاهة دائمة، او ان تصاب في احسن الاحوال بضغط دم "مُعّند" او سكري من نوع "شرس"،فما عليك الا المواظبة على مطالعة صحفنا.النتيجة حتمية بالوصول الى بغُيتكَ من دون كبير عناء. 

الصحف العتيدة تفرد لك على صفحاتها من الاولى للاخيرة اخباراً صادمة، يشيب لها الولدان،وتبخُ في وجهك ازمات مستعصية،وتنبشُ روائح قضايا فساد تسم البدن،وتُقصّر العمر،آخرها ملف دائرة الجمارك الطازج جداً اثناء كتابة المقال. فلا عجب حين تؤكد التقارير الطبية ان نصف الشعب الاردني مصاب بالضغط والسكري،والنصف الاخر مصاب بالامراض النفسية،لكن التقارير اغفلت الاشارة الى ان هذه الامراض تقود صاحبها بقانون الحتمية الى عجوزات جنسية، لا ينفع معها طب ولا اعشاب،ولا تفيد معها اجهزة فاكيوم،ولا حُجُب مشايخ "فك الربط" و عتاولة الشعوذة في " إستنهاض همة المغدور" حتى لو جاؤوا بملوك الجان شمهورش وشمروخ واستعانوا بشمشون الجبار. 

*** نظرة عشوائية لوجوه الناس ومراقبة سلوكهم في الشوارع،تلمح الانفعالات السلبية تقطر من ذقونهم، وتزرب من ايديهم :عصبية زائدة،نزق شديد،توتر غامض،وجوم عميق،نظرات خوف من المستقبل،حدة في التعامل،ميل للعدوان لاتفه الاسباب،مناكفات في الطوابير، تلويح بالذبحوإشارات بالقتل، حالات شد في الدوائر الحكومية،ملاسنات بذيئة على الاشارات الضوئية،شكاوي مستمرة من كل شيء،فقدان ثقة بكل شيء،وذعر يساور الجميع من انزلاق في فوضى لا تُبقي على شيء. 
  
*** عنف يضرب المجتمع،وكأن الواحد منا يحمل داخله قنبلة عنقودية ينتظر تفجيرها للتخلص من ضغوطه.اغلبية السيارات لا تخلو من قطعة سلاح ناري او ابيض او قنوة مقدودة من سندياية، كلٌ حسب ترتيبه الاجتماعي.الكل مسلح من بائع الغاز حتى نائب الشعب.هذا على خط الرجال المحترمين،اما على خط الزعران فقد اخذ العنف منحىً جديداً بممارسة انشطتهم في الاماكن العامة علانية، و تحصيل الخاوات، وسرقة السيارات ثم التفاوض مع اصحابها،على طريقة انكشارية "الوالي العثماني".اخر ابداعاتهم الجرمية كانت سلب طلاب رحلة مدرسية وتحطيم حافلتهم بفرح كأنهم يتسلون في لعبة "أتاري". 
  
*** تدمير يومي للمرافق الجامعية و المدارس،اعتداءات على الثروة الحرجية التي لم يبق منها سوى 1% ، سرقة الكوابل النحاسية،اغطية المناهل،الحاويات،اطلاق النار على شبكات المياه لسقاية المواشي ،وتمديد خطوط سرية لري المزارع الخاصة مع عدم الاكثرات لموت الناس عطشاً،اغلاقات بالسلاسل للمدارس والبلديات لخلافات عشائرية، تسريبات للاسئلة ،تهديد مراقبي الامتحانات،اعتداءات مستمرة على الكوادر الطبية، هجوم على المراكز الامنية والمؤسسات الحكومية،مقاومة رجال الامن بالسلاح وقتل افراد منهم. فظائع في مراكز الاحداث والرعاية الاجتماعية،ملثمون يجوبون حرم الجامعات بالبلطات،انتشار مرعب للمخدرات و بيع للادوية المقلدة على البسطات، جيوش من الاطفال والفتيات المتسولات تنتشر في تقاطع الطرقات وعلى الاشارات. 

*** مشهد فجائعي في تعقيداته الداخلية ،وتشابكاته الاقليمية،وتداخلاته الدولية، يرافقه طفر يضرب الغالبية العظمى ،ينعكس ركودا على التجارة، شيكات مرتجعة بلا رصيد بمئات الملايين . مواطن بدء يفقد اعصابه،و يفتقد شعوره بالسلم الاجتماعي، بدءاً من تراجع الامن الغذائي وشح الماء وغلاء الطاقة الى تكاليف حفر القبر ورسوم الدفن. انه الخراب الزاحف،الترهل المطبق. السؤال المعلقعلى كل الشفاه الى اين نحن ذاهبون؟!. 

*** الرئيس النسور يفكر في اعلان محافظات الشمال منطقة منكوبة. النائب الدغمي طالب باعلان المفرق منطقة منكوبة. الزميلة جمانة غنيمات ناشدت:اعلان الاردن بلداُ منكوباً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.الاكثر إثارة قنبلة الدكتور عبدالسلام العبادي الزلزالية عن المسكوت عنه: "اصلاح المؤسسة الدينية"!!!. الدكتور القضاة اطلق صرخة غضب،وعاد لدعوة الخطباء الممنوعين للعودة لمنابر رسول الله بعد سيطرة الاميون عليها. المفارقة المحزنة التي تجرح الضمير الوطني والوجدان الديني ان يعتلي أُميٌ منبر علم واجتهاد، ويتحدث عن "اسباغ الماء على المكاره" وفضائل قتل "ابو بريص" بينما كانت الصواريخ تنهمر على بغداد،في حين يمنع العلامة الموسوعي والمربي الكبير الكيلاني من الخطابة.ياللعار داعية يلقى ربه و كتاب المنع في جيبه. 

*** الازمة ليست في نظام الحكم وحده،ولا في سياسات الحكومات فقط.الفرد مأزوم،والكل في ازمة وان اختلفت انواعها و 
اسبابها و اعراضها ودرجاتها. رب الاسرة مسؤول عن العنف الاسري، التاجر مسؤول عن فساد بضاعته،الموظف مسؤول عن تأخير المعاملات في ادراجة،الطالب مسؤول عن الغش في الامتحان،صاحب المطعم مسؤول عن نظافة طعامة،الصيدلي مسؤول عن التلاعب بتاريخ صلاحية الدواء. المهندس،الطبيب،دكتور الجامعة، المحامي،المقاول مسؤولون في مواقعهم .جريمة الجرائم ان الفساد ضرب الجميع الا من رحم ربي ممن تحصن بالدين و الاخلاق و يقظة الضمير. النكتة التي تثير الاشمئزاز عندما يتحدث احدهم عن الانتماء فيما هو في الواقع "يحمل في الداخل ضده". ازدواجية نعيشها في وطن منخور الى اقصى الحدود، فيما تصدح عشرات الفضائيات والاذاعات بالاغاني الحماسية الصباحية، و الاناشيد الوطنية حتى اواخر الليل،كأننا في كوريا الشمالية على شفا محرقة نووية،مع ان الحقيقة تقول:القضايا الكبيرة لا تُحل بقرع الطبول انما بضرب المعاول،وتشييد المصانع واستنبات الحقول. 

*** في ظل هذا الخراب العميم، يجب اعتبار المسجد مؤسسة تربوية،و اعطاء المنبر مكانته اللائقة واعتلاء الاكفاء صهوته، لاخذ دورهم في تناول القضايا من منظور الاسلام التنويري، لما للمنبر من حضور طاغ ومؤثر في الوجدان الجمعي للمواطن الاردني،و منع ابدي للخطباء الاميين الذين يخئطون في القراءة ويلحنون بالقرآن. 

*** ما نكتبه يظل كتابة على الماء و نقشاً على الهواء، ما لم تُرفع القبضة الامنية عن الجامعات والمساجد و الاعلام وعدم التدخل بالبرلمان،وقد آن الاوان لاعتبار المسجد والجامعة والبرلمان والصحافة والنقابة اماكن مقدسة،ومواقع تربوية تنويرية سياسية،وليست ملفات امنية. ففقدان ثلاثة شبان جامعيين، يدل على حجم الكارثة التي جاءت بها عقليات عرفية مأزومة ،ورموز سياسية منتفعة،وقيادات محافظة ترفض التغيير،وتتهيب التطور. 

*** التفاؤل لا يفارقنا، باردن جديد يشرق من قلب العتمة بعد ان استطاع الاعمى ان يفرز الخيط الابيض من الاسود،ووجوب النظر لهذا الوطن بعيون الابرار لا عيون التجار،وصائدي المكافآت الذين يملأون الاجواء ضجيجاً ،انتظاراً لمقايضة سكوتهم بمكآفأة،و الا ما تفسير التكالب على الاستيزار،والتهافت على لقب "عين". 
  
*** الارتقاء باردننا الى اقصى الحدود،لن يكون الا بتجريف البلاد من عوالقها الفاسدة،و اعطاء كل ذي حق حقه،و انصاف المحافظات،وتوزيع الثروة بعدالة،واسترداد الاموال المسروقة،وعودة الاصول المنهوبة،وجلب الفارين،و اعادة الاعتبار للمعلم والاهتمام باستقلالية القاضي،ورد المكانة لمنبر رسول الله، تزامناً مع الحَجْرِ على المصابين بالتوحد وتورم الذات وتجار الوطنية ، او تحويلهم الى مصحات نفسية.بعد هذه التحولات العميقة يحق لنا ان نتبادل التهاني بوطن لا احلى و لا اغلى .