القرود الثلاثة

النهايات واغتيال مرزوق في مدن الملح شرق المتوسط بشرت منذ عقود بالحال المعقد والأهوال التي تلتف على الأعناق تخنقها حد الذبح، ففي النهايات اختلطت الأشياء ونفيت القيم وتشوهت الهويات ولم يعد معروفا من الجلاد ومن الضحية، وتتوج المشهد باغتيال مرزوق ليتوه كل الذين كانوا معه، وبعدهم استمر التيه في وادي العيون وكل الواحات لما تحول الماء إلى زيت نفط تنعم به قحاب ويموت الشعر ومعه المعرفة والحر عطشا.
ومذ ذاك الزمان انقلبت مدن الرمل من ملح وطوز إلى مواخير وصلت أبراجها عنان السماء تحديا للأطول بالعالم رغم قصر القامات خالية الهمم المتكرشة توحشا بنهم لم يخلو من فجع، فما عاد شرق المتوسط لطيب الهواء ولا لتفتح الخلايا للحب والشهوة، فقد تحوّلت عصي الرعي فيه إلى قضبان سرعان ما سيجت كأقفاص ينحشي بها اللسان وكل الكلام، وحلّت محلّهم الروم وعاد الفرس معهم، ولا أحد يتذكر يرموك أو قادسية.
ولم يكتفوا، فاغتالوا مرزوقا مرة أخرى، فجفّ بردى والعاصي صار لينا، والأردن سيلا شحيحا وطبريا لماء عذب منها ولم يعد لنا منه نصيبا أو حتى مجرد بلة ريق. وها هي النار تحرق جلق، وتلوح بحرق بيروت ثالثة وهي لم تعد باريس العرب إلاّ لجهة السياحة الجسدية وقد غادرها كبار الفن أدبا وثقافة منذ أمد يتمادى بالبعد.
لو أنّ عبد الرحمن منيف يعود ليكتب ثانية لصحح لنا وكتب البدايات وقتل مرزوق حرقا في تونس، وعن مدن من سدة القاع إلى الأبراج، ولسوف يتأمل معنا ربيعا يزهر دما وفوضى وخيانات. ولو أنّ مظفر النواب أراد الكتابة اليوم لأعاد على المسامع «قمم قمم قمم» مدركا أكثر من هو راعي المعزة والغنم. أمّا من كتب ولحّن نشيد بلادي بلادي فسيعمد لتغيير فداك باستبحت، وبلاد قد تتحول إلى نباح العرب أدماني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فقردان, ثالهم معهم بلا بصر ولا سمع أو لسان.