بين قنبلة غولدبيرغ وفزعة "عمان-بيرغ"

أخبار البلد

شَتّان بين فضاءَي الصحفي الغربي والصحفي الأردني/ العربي.في الغرب، تُجبل قيمه المهنية على أساس أنه حارس الرأي العام؛ يمارس عمله منطلقا من سلطة رابعة مستقلة، وظيفتها مراقبة السلطات الثلاث، والبحث عن إجابات شافية لحديث الساعة والمجتمع، وكشف الحقائق للشعب؛ مصدر السلطات.

وهو من يطلق صافرات الإنذار في حال وقوع خلل.يدخل كليات الإعلام العريقة بـ"طلوع الروح"، بعد اجتياز فحص تعجيزي لقياس ملكته، ومستوى ثقافته العامة، بغض النظر عن معدله التراكمي في المدرسة.

ثم يخضع لمقابلات شخصية مع لجنة جامعية، تمحّص صفاته الشخصية وقدرته على التأقلم مع شتّى أنواع الضغوط. طالب الإعلام يختار "مهنة المتاعب" نتيجة قناعة تامة، ورغبة في تحقيق ذاته من خلال خدمة المجتمع.


يقضّي نصف وقته في تعلم الشق الأكاديمي النظري، والنصف الآخر متدربا في مؤسسات إعلامية محترفة، تعمل وفق دليل إرشادي لضبط الجودة، وميثاق شرف، بإمرة رئيس تحرير ورؤساء أقسام كافحوا للوصول إلى هذه المراكز، بعد "دعكهم" في الميدان ومطبخ التحرير قبل أن يتحولوا إلى نماذج قدوة.هذه العوامل مجتمعة تمأسس لثقافة الجودة والتميز والاستقلال.يتقاضى الصحفيون الغربيون رواتب محترمة، تضمن لهم مستوى حياة مريح نوعا ما.

وفي أحيان كثيرة، يحق لهم شراء أسهم في مؤسساتهم بأسعار تفضيلية، ما يرسخ أمانهم الوظيفي ويعزز مدخراتهم، وبالتالي ولاءهم وانتماءهم لمهنتهم ومؤسساتهم. من يخطئ منهم يحاسب، وفي أحيان كثيرة يطرد. وفي حال أخطأ رئيس التحرير، فهناك مجلس يحاسبه.


البيئة التشريعية داعمة للإبداع والتفرد. قوانين تسهّل حق الحصول على المعلومات، ومسؤولون لا يتخندقون وراء عقلية القلعة؛ لا يفرضون على الصحفي إرسال أسئلته عبر الفاكس، ولا يلزمونه بنشر ردّهم حرفيا أو قراءة الخبر قبل النشر.قضاء مستقل. قوانين واضحة لحماية الناس من التشهير وتلطيخ السمعة بدون أدلة وبراهين.


مجتمع يدعم هذه الصناعة ويتقبّل النقد من باب المراجعة والاتعاظ من الأخطاء.

لا تنصّت على مكالمات الصحفي إلا بقرار قضائي له تبريراته.في عالمنا، تنقلب الصورة.خريج "التوجيهي" يختار الإعلام لأن معدله التراكمي لا يؤهله لدراسة ما يرغب فيه، بحسب معايير اعتماد الخريجين في الجامعات، و/ أو لأن عائلته لا تستطيع دفع رسوم البرامج الموازية.المناهج الأكاديمية تجتر الماضي، وتساير الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي، وغالبيتها نظري. المؤسسات الإعلامية غالبا غير مؤهلة لتدريبهم، أو لا تريد التورط في عملية التدريب.

ولن أدخل في معايير اعتماد الأكاديميين أو أسس تعيينهم وترقيتهم وابتعاثهم للخارج.. لأن ذلك مصيبة أخرى.بعد التخرج، يعين المحظوظ منهم بـ"الواسطة" براتب 280 دينارا، هذا إن دُفع في نهاية الشهر. ولا تستثمر مؤسسته في إكسابه مهارات جديدة، كما تتهرب من تغطية نفقات العمل الميداني والتنقل والاتصالات. يجد نفسه غالبا داخل مؤسسة تعمل بـ"الريموت كونترول"، بدون سياسات تحرير موحدة أو ضوابط تحدد سلوكه المهني، وتحظر -مثلا- قبول الهدايا العينية والنقدية التي "تكسر العين".

رئيس التحرير يهبط بالباراشوت في العادة، ليكون الحارس الأمين على مصالح الساسة الذين عينوه.

يختار طاقم معاونيه بعشوائية قائمة على الكيمياء الشخصية، أو توصيات من "الأصابع الذهبية" التي تتحكم بمفاتيح غرف تحرير تفتقر إلى تجربة تحريرية تراكمية تحمي الإبداع وتكافئ التميز. وبكبسة زر، تتحول إلى "خرطوش بدون فشك" تستخدم في "الطخ" بمفردات مهترئة، تشيطن كل من يخرج عن النص. يختار رئيس التحرير، في الأغلب، "المانشيتات" الرئيسة وفق الخيارات التي ترده من أصحاب الفضل في تعيينه.

لا يجول في غرف التحرير، وتقتصر رقابته على قص وشطب الممنوعات. وإذا قرّر التغريد خارج السرب، فقد يتعرض للطرد.البيئة التشريعية طاردة. حتى قوانين حق الحصول على المعلومة تعوق فعليا الوصول إليها، بوجود قوانين أخرى تحمي وثائق وأسرار الدولة، ومسؤولين خارج القانون. يظل الصحفي على قناعة بوجود جهّات داخل وخارج المؤسسة تتنصت عليه. تُقمع مقالات الرأي والقصص الإخبارية.

وغالبا ما تخلط الحقائق بالآراء لتضليل القارئ. يدرك أيضا أن "دكتاتورية الشارع" تمارس أحيانا سطوة تفوق ضغوط السلطات الرسمية، وبخاصة حين يكشف الصحفي أنماطا من الإساءة وسوء الائتمان، كما حصل مع الزميلة حنان خندقجي حين فضحت حالات اعتداء وشتائم بحق أطفال معاقين حركيا في مدارس خاصة بهم.


في الغرب، لا يبني الصحفي المحترف علاقات اجتماعية مع المسؤول قد تؤثر على قدرته على كتابة خبر مكتمل، وأيضا على محاججته في حال اكتشف ثغرات في إجاباته، أو حاول الكذب والتضليل. لن تنتهي حياة الصحفي المهنية إذا لم تصله بطاقة معايدة من مسؤول، أو لم يدعَ إلى مؤتمر صحفي، أو إلى مائدة أصحاب النفوذ.

لا يتوقع المسؤول في الغرب أن يحترمه الصحفي أو أن ينحني له.يحافظ الصحفي الغربي على مسافة مع المسؤولين، ويخضعهم للنقد والتشكيك حتى يثبت العكس. يدرك أن المتلقي يتوقع من الإعلام الخاص أو الرسمي الممول من دافعي الضرائب شرح الوقائع، وتحليل إيجابيات قرارات السلطة وسلبياتها، كما يجيب عن الأسئلة الحسّاسة في الخواطر.

يدرك أن في كل إجابة ثغرة، وعليه محاولة فك الشيفرة من خلال الإصرار على معرفة الحقائق.في الغرب، يُتوقع من الصحفي تقصّي الحقائق المتاحة حول الموضوع أو المسؤولين الذين يكتب عنهم، وأن يستعد لمواجهتهم بالمعطيات التي يجمعها. لا يتزلف: "مرحبا باشا أو معاليك.. شو في أخبار اليوم".

ويختتم المحادثة بـ"حاضر سيدي وأبشر". فالصحفي المحترف يدرك أنه في حال سأل سؤالا غبيا، سيأتيه جواب أكثر غباء، وسيخذل قرّاءه الذين ينتظرون منه أسئلة حيوية بالإنابة عنهم. يعرف أنه في حال كانت معلوماته الأساسية ناقصة، فإنه سيطرد أو يعاقب من القرّاء، وسيخسر رأس ماله: اسمه وصدقيته، ما سينعكس على اسم مؤسسته، حيث الجميع شركاء في المغنم والخسارة.في الغرب، يرفض رؤساء التحرير إرسال أسئلتهم إلى رئيس الوزراء، وزيارته في مكتبه أو التقاط الصور معه، بدون أن يكونوا مسلحين بأقلام وآلات تسجيل.


أما هنا، فكثيرون يخرجون بعد "حفلات" تصوير وتبادل المجاملات وبحوزتهم إجابات مكتوبة للنشر.

هناك، يرفضون تلقّي أوامر بمنع النشر، أو مواراة معلومة في الصفحات الداخلية.


أخبارهم تستند إلى مصدرين على الأقل. لن يقبلوا بنشر بيان لأي جهة رسمية تكذّب تأكيدات صحفية بدون أن يتقصوا صدقية النفي، ويقوموا بدورهم في المساءلة والمراقبة.

في بريطانيا، لا تمنح الملكة أو رئيس الوزراء أي مقابلة صحفية بدون التدقيق في السجل المهني لمقدم الطلب ووسيلته الإعلامية، وبدون الاتفاق على المحاور الرئيسة، وعلى أسس إجراء المقابلة: كلها للنشر (on record)، أو بعضها ليس للنشر (off record)، أو "معلومات خلفية" بدون نسبها إلى مصدر (deep background).

القاعدة في الغرب هي أن الصحفي "كلب حراسة المجتمع" (society's watchdog)، وفي عالمنا العربي هي استثناء، أما القاعدة فهي أن يكون أداة في حضن المسؤول (the official's lapdog).

مقابلة جيفري غولدبيرغ في مجلة "ذي أتلاتنك" الأكثر تأثيرا في واشنطن، مثال على كيفية استعداد الصحفي المحترف - بغض النظر عن أصله وفصله - وقدرته على انتزاع ما يستطيع من إجابات مسجلة للنشر.

وهي تؤشر إلى إخفاق الإعلام الرسمي والخاص في التعامل مع تبعات المقابلة: نشر النفي الصادر عن الديوان الملكي بدون نشر القصّة مثار الجدل، وفتحت نار جهنم على الصحفي الذي أجرى المقابلة.

وفي اليوم التالي، نشر النص الكامل لمقابلة الملك مع مراسل وكالة الأسوشيتد برس" الأميركية، الزميل جمال الحلبي، متضمنا مواقف مغايرة لما ورد في مقالة غولدبيرغ.

نجد أنفسنا -مواطنين وصحفيين- مرة أخرى أمام واقع لولبي محبط في عصر الإنترنت والإعلام البديل؛ أمام ضحالة فكر أي مسؤول حكومي أو وسيلة إعلام تعتقد بالقدرة على ترهيب جيفري غولدبيرغ ومن لف لفه، أو منعه من النشر، أو إرغامه على اختيار عناوين ترويجية، كما يحصل مع غالبية المنتسبين لإعلامنا المرعوب.


وأيضا أمام مسؤولين حكوميين يبرعون في ازدواجية الخطاب بين الداخل والخارج، وإعلام محلي "على قد اليد"، فقد صدقيته.



رنا الصباغ - الغد