لئلا نحرق المراحل !

عندما كنا صغارا خيالنا لم يكن له حدود.. حلمنا بتغيير العالم.. دون أن ندرك بأن الأوْلى هو تغيير أنفسنا.. وتدريجيا نكتشف بأننا لن نغير العالم والأفضل البدء بالنفس أولا.. لأن تغيير النفس مضمون في حالة تقليد الشخصية الأيجابية النموذج في العائلة والمجتمع فنضمن تغيير المجتمع بأسره نحو الافضل.. وهذا لن يتم إلا من خلال الفكر والإبداع ووجود قادة تأخذ على عاتقها إحداث التغيير.. أما كيف نتغير ؟ فكل واحد مسؤول عن التغيير إذا ملك الرغبة الصادقة بالتغيير ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).. متحلّين بالوقت نفسه بالعزيمة التي هي سر النجاح، متخّذين من الأنبياء والرسل والقادة والمخترعين وغيرهم من المؤثرين السابقين واللاحقين نموذجا يُحتذى به.
ولكن حذار من حرق المراحل.. فكلنا ندرك مخاطر القفز فوق المراحل لأن التراكمات العملية والطبيعية التدريجية هي التي تؤدي عادة إلى تحقيق القفزة النوعية التي تجعلنا نتقدم إلى الأمام أو الخلف وفق إيجابيات أو سلبيات هذه التراكمات.. ولا قفزة نوعية بدون تراكمات !
ولشدة ما أخشاه ولكثرة تلهفنا على حث الخطى باتجاه الإصلاح أن نقفز قفزا فوق مراحل مفصلية.. ملحقين الضرر بأنفسنا وبغيرنا من حولنا مذكّرين بأنه «في التأني السلامة وفي العجلة الندامة»..
كلا هذه ليست وجهة نظر فلسفية بحتة، فهي حقيقة منبثقة عن واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي.. وبما أنني سُئِلْت أكثر من مرّة عن سبب تناولي قضايا العالم الخارجي أكثر من قضايانا الداخلية.. فأردّ بتساؤل آخر.. وهل هنالك أغلى من الوطن وأهم من قضاياه ؟ولكنني آثرت التمهل حتى تنجلي الضبابية كي تصبح الصورة أكثر وضوحا وبخاصة فيما يتعلق بالمشاورات الجارية بين رئيس الوزراء المكلف الدكتور عبدالله النسور مع الكتل النيابية بغية الوصول لحكومة برلمانية تكون نتاج عمل دؤوب تراكمي منبثق عن السلطتين التنفيذية والتشريعية..
فبين أصوات تصر على توزير النواب وأخرى ترفض هكذا توجه، ناهيك عن جماعات ترفض عودة بعض الوزراء العابرين للحكومات، وأخرى تصر على الاستفادة من خبرات هؤلاء المخضرمين.. فبين هذا كله اسمحوا لي أن أدلي بدلوي في هذين المجالين بموضوعية بعيدا عن أي تحيّز..
نحن في أمس الحاجة إلى الخبرات وبخاصة لمتابعة واستكمال ملفات الخارجية والمالية والتعاون الدولي والطاقة وغيرها.. فمحصلة عملهم تتمحور حول تكملة مشوارهم في العلاقات الخارجية ولا صير في ذلك.. فعلى سبيل المثال وزير الخارجية المصري السابق «محمود فوزي» بقي بمنصبه من 1952-1964، تبعه محمود رياض من 1964-1972، ما دامت المهنية ونظافة اليد مضمونة.. صحيح ان هنالك آخرين بإمكانهم تولي نفس المناصب ولكن المعرفة المنبثقة عن طيلة الممارسة يمتّن جسور الحوار الحالية الممدودة بينهم وبين الآخرين الآن، وفعلا ما أحوجنا إلى التمتين والتمكين فلماذا نبدأ بتكسير الجليد لمد جسور أخرى من جديد..
وأما من ناحية توزير النواب فلا غبار على هكذا طرح وبخاصة أن الدستور الأردني لا يمنع ذلك........ولكن حذار ففي التأنّي السلامة.. وبخاصة أن مرحلتنا تتميز بغياب دور الأحزاب الفاعل بداخل مجلس النواب وخارجه معرقلا بذلك عملية ميلاد حكومات حزبية حقيقية..
ولهذا يُفضَّل ترك المخاض يستغرق وقته الطبيعي ريثما تنضج الأحزاب وتتولد عنها حكومات حزبية تخرج فعلا من رحم مجلس النواب.. متجنبين بالوقت الحالي حمل بطيختيْن بيد واحدة وفي آن واحد ( الوزارة والنيابة ) خوفا من التعثر أو السقوط ريثما يتم تعبيد النهج الديمقراطي، آملين أن تتم المشاورات بين رئيس الوزراء والكتل على أساس نوعية ومهنية و»طهارة» الفريق الحكومي من جهة وعلى برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى.. فاذا وافقت الكتل النيابية على هذين العنصرين الرئيسيين ضمنّا موافقة الأردنيين جميعهم وضمنا أيضا نجاحنا في هذه المرحلة الحسّاسة .. وكفى الله المؤمنين شر القتال .. وهو المطلوب !