حكومة برلمانية «مجلسية»
طالت المشاورات البرلمانية للاتفاق على تشكيل الحكومة البرلمانية حتى تمنى الكثيرون لو كان بالمستطاع تجنبها. بعضهم شبهها بظاهرة الحراك الشبابي التي امتهن فيها الحراكيون رفع شعارات لا أقدام لها تمشي عليها، فبقيت تزحف، يوما بعد يوم وسنة بعد اخرى، حتى تعب حاملوها، كما تعب الناس من مراوحتها في نفس المكان.
وكثرت الاقتراحات والاقتراحات المضادة، أثناءها، حتى صارت المشاورات أشبه بتمرين للعصف الذهني لاستيعاب ما يمكن أن يكون عليه الأمر في غد.
بعض الاقتراحات ذهبت لتشكيل حكومة برلمانية «مجلسية،» بمعنى أن يأتي رئيس الحكومة ووزراؤه، أو بعضهم، من مجلس الأمة. لا يهمنا، هنا، إن تخلى نوابنا عن الاقتراح، مؤخرا. ما يهمنا أن أصحابه أرادوا تطبيق تجربة ديمقراطية غربية ناجحة، من غير أن يتوقفوا أمام شروط استوفتها تلك الدول في تجربتها ما زال علينا أن نعبر مفازات طويلة نحو استكمالها.
فحياة تلك الدول السياسية تتميز بوجود أحزاب ذات برامج سياسية معروفة للناس تتقدم لهم على أساسها في الانتخابات النيابية، وتتعهد لهم بتطبيقها، لو فوضوها بالحكم بإيصالها للبرلمان بأغلبية تمكنها من ذلك، وهو ما يعني، لو حصل، أن سيكلف رئيس الدولة رئيس ذلك الحزب بتشكيل الحكومة؛ فيشكلها هذا من نواب حزبه في البرلمان، الذين سيكونون، في وزاراتهم، مسؤولين عن تطبيق ما يخصهم من برنامج الحزب.
على أنهم، أثناء توليهم الحكم، سيكونون تحت مراقبة الحزب الثاني في البرلمان صاحب البرنامج السياسي البديل الذي طرح في الانتخابات. فإن فشل الحزب الحاكم في إرضاء الناس، فإنهم سيسقطونه في الانتخابات التالية ليتولى الحزب المعارض، أو حكومة الظل، الحكم في البلاد في تداول صار سمة بارزة من سمات الحياة الديمقراطية الغربية.
الحكومة البرلمانية المجلسية، بالمعنى السابق، لم تقبلها دول كثيرة. ففي فرنسا، مثلا، يستقيل كل نواب الحزب المكلفين بمهام وزارية في حكومة حزبهم، ليحل محلهم النواب الذين يتلونهم في قائمة الحزب الانتخابية. أي لا يصح، في فرنسا، الجمع بين النيابة والوزارة .
أما في الولايات المتحدة بنظامها الرئاسي، فرئيس الجمهورية، المنتخب من الشعب، يكون هو الحاكم الذي يعين وزراءه ويقرر برنامج الحكومة سواء كان حزبه حزب الأكثرية في الكونغرس أو لم يكن. وتكون المراقبة هنا أشد وتصل حد الصدام كما حصل أيام كلنتون سنة 1993.
أين نحن من هذا؟ فنحن، في بلادنا، ليست لدينا أحزاب ذات أغلبية في البرلمان؛ وبعضها لا يملك برامج سياسية يعرفها الناس. كما أنه لو تشكلت حكومة برلمانية مجلسية، بطريقة أو بأخرى، فلن تكون وراءها حكومة ظل تنافسها.
طريق طويلة تمتد ما بيننا، اليوم، وبين المثال الذي نطمح لتقليده. واقعنا السياسي أقرب ما يكون للنظام الرئاسي منه لنظام نيابي بالمعنى الأوروبي. فالسلطة التنفيذية، عندنا، منوطة بالملك، دستوريا، يمارسها عبر وزرائه، لكن جلالته لا يمثل حزبا معينا بل كل المواطنين بكل فئاتهم. هو الحكم بينهم، إن كان ثمة خلاف.
ونحن اليوم بيننا خلاف، فلنخرج منه، بإعادة الأمر لسيد البلاد يكلف من يرى مناسبا بتشكيل حكومة غير مجلسية، ولنصر على أن يكون ذلك تقليدنا طيلة الوقت اللازم لتطورنا باتجاه ترسيخ النموذج الديمقراطي المطلوب.