هل هناك جدلية بين الاستقرار والديمقراطية..؟

معظم الحروب التي قامت بها الولايات المتحدة منذ منتصف القرن الماضي كانت تأخذ طابع نشر الديمقراطية والحرية، ولكن للأسف لم تتحقق لا الحريات ولم نر استقراراّ ولا ممارسة للديمقراطية، وهذا ما اعترفت به وزيرة الخارجية الامريكية السابقة «كوند ليزا رايس» عند معادلة المفاضلة بين الاستقرار والديمقراطية لمصلحة الاستقرار فقط، وكان هذا الاعتراف أقرب الى النقد الذاتي خصوصا ان المعادلة سقطت بطرفيها فلا استقرار ولا ديمقراطية، وهذا ما أضافته رايس الى نقدها لإدارة بلادها قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001 مقابل هذا الاعتراف ثمة عبارة شهيرة نسبت الى مواطن امريكي كان قد قالها على شاشة(c.n.n) عشية الحادي عشر من سبتمبر 2001 وهي انه مطالب بدفع حريته أو معظمها في سبيل أمنه الشخصي او بعضه، وأضاف الرجل قائلاّ « إن الخسارة ستكون مزدوجة فلا أمن شخصي ولا حرية» .
إن ثنائيات الولايات المتحدة تعلقت باللون والعرق، أو الارهاب والأمن، أو الحرب والسلام، تبقى ثنائية سواء ناقصة بلا بعد ثالث يعطي للمسألة ذلك المستوى الجدلي المطلوب تاريخياّ، لهذا فكل المفاضلات انتهت الى خسائر لان من لا يرى أبعد من مصالحه أي شيء في هذا الكوكب عليه أخيراّ ان يدفع ثمن هذا الانكفاء على ألذات وهذه النرجسية السياسية التي قد يكون مصيرها شبيه بمصير نرجس الجميل الذي ظل ينظر الى صورته في الماء حتى غرق.
ما قاله يوري أفنيري عن مفهوم الديمقراطية الضيق والمفصل على قياس دولة اسرائيل سبق أن قال ما يشبهه تشوسكي عن ديمقراطية امريكا، فهي وبالتالي ذات لون واحد لا تصلح للنمو في البيئات الحارة والرطبة، لهذا دعمت امريكا انظمة ديكتاتورية في القارات الثلاث «اسيا، افريقيا، وأمريكا اللاتينية «، وقبلت بالتعايش السياسي وأحيانا التحالف والشراكة مع اكثر تلك النظم اوتوقراطية وشمولية، لكنها ما إن تشم رائحة التعفن في آن واحد من تلك النظم وتدرك ان انهيارها وشيك بل محتم حتى تستدير عن موقفها 180 درجة احياناّ لاستباق الاحداث وأحيانا لاختطاف ما ينشأ عن انقاض النظام المهزوم، لكن هذه الفلسفة بكل حمولتها الذرائعية لم تعد صالحة او ذات مفاعيل في العالم لان الاقنعة سقطت تباعاّ .
الموقف الامريكي إزاء احداث ثورات الربيع العربي ليس استثناء لكنه أيضاّ ليس نموذجا تقليديا، فالفترة التي استغرقتها حراكات الربيع العربي اربكت الادارة الامريكية ولم تقدم لها الوقت الكافي لممارسة اللعبة ذاتها وهي ضربة على السندان وضربة على المطرقة.
إن بقاء استراتيجية ما سمي بالحقبة الكسنجرية (حقبة هنري كيسنجر/الاحتواء المزدوج) والتي نجحت في سبعينات القرن الماضي في اكثر من مكان، والكلام الامريكي عن الديمقراطيات والشفافية وحق الشعوب في التعبير والتغيير والحرية وتقرير ألمصير تحدد اهميته وقابليته للترجمة الميدانية الجغرافيا السياسية لعالمنا، فهي إذ تساند أنظمة تعاني امية شاملة في المسألة الديمقراطية، وقد تتحالف معها وتندد بأنظمة أخرى ما يفقد الاطروحة مصداقيتها من الناحيتين الاخلاقية والسياسية .
ختاما اقول ان آخر ما تفتق عنه الذهن السياسي الامريكي هو الانتظار قليلاّ وقبل الحسم بدقائق اوساعات على الاكثر يتم استثمار ألنتائج فإن كانت لمصلحة الشعوب تصبح هذه الشعوب جديرة بالإطراء والمساندة، وإن كانت لمصالح الانظمة فإن الموقف لا يتجاوز العتاب المهذب.