خصخصة سيارات الإسعاف وتعويم الموت

   
قرار مجلس الوزراء في 17 شباط الحالي فرض أجور على المرضى المنقولين في سيارات إسعاف وزارة الصحة ليس بالخبر الذي يفترض به إثارة هذه الزوبعة من الانتقاد والتذمر في وسائل الإعلام والرأي العام والوسط النقابي. لكن الحملة المعاكسة للقرار انطلقت من باب الحذر الاحترازي من تصريحات وتصرفات وزارة الصحة التي أثارت العديد من الانتقادات في الآونة الأخيرة وأفقدتها مصداقيتها أمام مستهلكي الصحة والمراقبين المستائين من تغيب الوزارة الكلي عما يعصف بحاضر ومستقبل صحتهم من مصائب، وعما يترتب عليهم يوماً بعد يوم من نفقات لمواجهة الظروف المعيشية الصعبة التي يمرون بها.
وزارة الصحة لم تتلقن العبر من قراراتها الاستفزازية السابقة، وآخرها موضوع زيادة تحمل نفقات علاج مؤمنيها في المستشفيات الخاصة، ولم تستوعب بعد أن عليها توضيح مبررات قراراتها منذ البداية من دون الاستخفاف بالرأي العام ومن دون انتظار ردود الفعل السلبية وبشكل لا يزيد من المخاوف والشكوك، ويثبت بالحقائق والوقائع أنها معنية حقاً بواجبها المقدس تجاه مرضاها وعدم تعريضهم للانتظار ومخاطره كما افتخرت به بالأمس في بيان نعرف جميعاً أسباب صدوره في هذا التوقيت بالذات.
بعد أربعة أيام من صدور القرار استل وزير الصحة ميكروفونه ليصرح بأن الهدف من القرار لا يعدو كونه تنظيمياً ولا يشمل سوى نسبة ضئيلة من المرضى الذين تقوم سيارات الإسعاف التابعة للوزارة بنقلهم " بناءً على طلبهم ".
هل يتحدث معاليه عن سيارات إسعاف حقاً ؟ وإذا كان الجواب إيجابياً فهل المريض الذي يفترض أن حالته تتطلب أن ينقل بسيارة إسعاف هو الذي يختار وسيلة النقل كما يقول الوزير وكأنه في فسحة ورحلة تنزه أم أن الطبيب هو الذي يقرر ويفرض وجود سيارة إسعاف وأطباء مرافقين لتقوم بالمهمة ؟
وزارة الصحة التي يتلقى 67% من الأردنيين الرعاية والعناية الصحية في مؤسساتها ومراكزها ليست بالتأكيد المسؤولة الوحيدة عن الخدمات الصحية في المملكة لكن وبما أن قرار تسعيرة سيارات الإسعاف لا يمس سوى غير المؤمنين من قبل الوزارة فلماذا لم يتم التشاور مسبقاً مع بقية مكونات مؤسسات الصحة ومع شركات التأمين الصحية الخاصة لدراسة البدائل المتوفرة عوضاً عن إصداره بشكل استثنائي طارئ في وقت يواجه به المستهلك الأردني محنة مقلقة ؟
لكن القرار الأخير ولّد جملة من الاستنتاجات لن تجد الجواب الذي تنتظره، وأولها لماذا يا ترى يحق لوزارة الصحة فرض مصاريف صحية إضافية على المواطن وترفض أن يتقاضى الطبيب العام كشفية مشرفة تليق بأناس أضاعوا سنوات طوال من عمرهم لخدمة مرضى وطنهم ؟ ولماذا الوزارة وحدها يا ترى تملك حق تدفيع غير الأردنيين أضعاف ما يدفعه الأردني كما هو الحال في كلفة وحدة الدم أو في أجور النقل الجديدة لسيارات إسعافها بينما فرضت على الأطباء والمستشفيات معاملة الليبيين الأغنياء كمرضى تأمين صحي أردنيين حسب تسعيرة الوزارة الزهيدة المجحدة ؟
سيارات الدفاع المدني وأطقمها لم تتخاذل يوماً وفي أقسى الظروف عن خدمة المحتاجين من المرضى من دون مقابل، فهل ميزانية الدفاع المدني أغنى من وزارة الصحة أم أن التخطيط السطحي أو انعدام التخطيط هو الذي يدفع الوزارة لإيجاد مخرج لأزمتها الخانقة وهي التي لم تتوقف يوماً عن توظيفات غير ضرورية لإرضاء بعضهم، بينما التخمة تهلك أحشاءها من كثرة موظفيها ؟
المريب الغامض في القرار لا يتمثل بمحتوياته العلنية ونتائجه الحالية بل في المخاوف المتزايدة من أن يكون هذا القرار مجرد بالون اختبار وأن مسرحية يتم سلق فصولها خلف الكواليس بدأت اليوم بانسحاب الوزارة التدريجي من واجبها تجاه نقل الحالات الطارئة وقد تنتهي وإذ بشركة سيارات إسعاف خاصة ترى النور من دون مخاض عسير، وبمساعدة فريق مخضرم من الأطباء والقابلات يتولى مسؤولية نقل المرضى من وإلى المستشفيات بكلفة باهظة وبتجهيزات متقدمة تفتقر لها سيارات وزارة الصحة، بحيث لا تدع للمريض الميسور فرصة للتردد باختياره بينما ستكون النتيجة الحتمية للآخرين، أي لغالبية مرضى الوطن، الخيار ما بين أن يدفع الأهل مقدماً كلفة النقل إن كانت بحوزتهم في منتصف ليل حالك أو يدفع مريضهم ثمن كل دقيقة تأخير بانتظار رحمة وشفقة مستثمري صحة الأبرياء الجدد.