بين إغماءة محاضرات التشريح ومضغ العلكة !
كنا على مقاعد الجامعة ننتظر أوقات الفراغ بين المحاضرات الجامعية لنلتقي بأصدقاء المدرسة الذين ارتادوا كليات مختلفة في الجامعة الأردنية، نلتقي وتضحكنا أشياء كثيرة وتدهشنا تفاصيل الجامعة ومجتمعها الواسع على مقاسنا نحن طلبة السنة الأولى. أصدقاؤنا في كلية التجارة والحقوق كانوا الأكثر أناقة في ثيابهم وتصرفاتهم ، أصدقاؤنا في كليات الآداب وعلم النفس كانوا الأوسع ثقافة، أصدقاؤنا في كلية الهندسة صاروا فجأة متعالين، أما أصدقاؤنا في كلية الطب فقد كانوا اصحاب القصص الأكثر اثارة .
في السنة الجامعية الأولى صار بعض الأصدقاء في كلية الطب يشعرون بالغثيان إن وجدونا نأكل في الكافتيريا ، وسبب ذلك أنهم خارجون للتّو من محاضرة التشريح، فقد كان منظر الجثة الباردة التي يلتفون حولها كافيا ً لسد الشهية والشعور بالنفور ، وأتذكر صديقة أصابها هزال واضح وشكلت لها محاضرات التشريح الآدمي صدمة نفسية قبل أن تعتادها فيما بعد، وفقدت وعيها صديقة ثانية في أول محاضرة، بينما كادت احدى الصديقات أن تنقل إلى المستشفى إثر محاولة أحد زملائها اخافتها حين مثّل دور الجثة التي تعود إلى الحياة.
مرت السنوات الجامعية ، وبدأت ألاحظ أن صديقتنا «الطبيبة» التي ضعف جسدها قد حطّت عليها الشهية ، وصديقتنا التي فقدت وعيها لم تعد تكترث لمنظر الدماء، كما صار أصدقاؤنا «الأطباء»يمضغون العلكة ببساطة داخل المشرحة ، وفي أوقات فراغهم يأكلون باستمتاع وهم يتحدثون عن المشارط والتشريح والجثث باعتيادية غريبة. لقد صبغ الهدوء والاعتياد شخصياتهم وماعادوا ينفعلون من الأشياء التي كانت تثير غثيانهم وخوفهم.
هذا التطور الذي مر به أصدقاؤنا الأطباء يذكرني بما يحصل لنا من تطوّر نفسي وفتور تدريجي أمام أحداث كثيرة تمر بنا ونمر بها، لكننا نقابلها بالفتور أو الحيادية الغريبة ودون استغراب أو ردة فعل موازية، وكأن تكرار هذا المشهد أو ذاك على نحو مستمر يحولنا إلى متلقين سلبيين: فقد شاهدنا هذا يحدث من قبل، لقد شاهدناه كثيراً وما عاد يعنينا.
نعم، ماعاد هذا الإنسان يتفاعل لكثرة ما مر به.. انسحبت منّا حماستنا للناس وللأشياء. لماذا تغيرنا؟ ألأننا تقدمنا في التعب؟.